شبهات حول نهج البلاغة

شبهات حول نهج البلاغة :
5 ـ وبقيت شبهات ذكرها المعترض ، وهي : إنّ في نهج البلاغة :
أ ـ التعريض بالصحابة.
ب ـ التنميق اللفظي.
ج ـ دقّة الوصف.
د ـ عبارات يستشمّ منها ريح ادّعاء صاحبها علم الغيب.

أقول :
لكنّ الشبهات أكثر من هذه الأربعة… ولعلّ المعترض ملتفت إلى سقوط البقية فلم يتعرّض لها ، لكنّها مذكورة في كلمات غيره.
وقد أوردها كلّها مؤلّف كتاب « مصادر نهج البلاغة وأسانيده » تحت عنوان : « شبهات حول النهج » وأجاب عنها بالتفصيل ، فراجعه.
6 ـ وأمّا أنّ « نهج البلاغة » هو للسيّد شريف الرضي ، فهذا هو الثابت الواقع ،بالأدلّة المتينة والشواهد القويمة ، وباعتراف السابقين واللاحقين من العلماء من مختلف فرق المسلمين.
وأوّل من شكّك في المقام هو : قاضي القضاة ابن خلّكان ، صاحب « وفيات الأعيان » وتبعه بعض المتأخّرين عنه كالذهبي والصفدي وأمثالهما.

قيل :
« وأمّا المتّهم ـ عند المحدّثين ـ بوضع النهج فهو أخوه عليّ.
قال في الميزان : عليّ بن الحسين العلوي الشريف المرتضى المتكلّم الرافضي المعتزلي ، صاحب التصانيف ، حدّث عن سهل الديباجي والمرزباني وغيرهما. وولي نقابة العلويّة. ومات سنة 436 عن 81 سنة ، وهو المتّهم بوضع نهج البلاغة ، وله مشاركة قويّة في العلوم. ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنّه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ، ففيه السبّ الصراح والحطّ على السيّدين : أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما. وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيّين الصحابة وبنفس غيرهم ممّن بعدهم من المتأخّرين ، جزم بأنّ الكتاب أكثره باطل. رياض الجنّة لمقبل الوادعي 162 ـ 163 ».

أقول :
أمّا مقبل الوادعي فلا أعرفه ، وما أدري لماذا نقل عبارة الميزان بواسطته.
و( الميزان ) هو : « ميزان الاعتدال في نقد الرجال » للحافظ الذهبي ، والعبارة موجودة فيه ج 4 : 223 .
لكن في « العبر » للحافظ الذهبي ، أثنى على الشريف المرتضى ، ولم يتعرّض لكتاب نهج البلاغة ، فقال فيمن توفّي سنة 436 : « والشريف المرتضى نقيب الطالبيّين وشيخ الشيعة ورئيسهم بالعراق ، أبو طالب : علىّ بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي ، وله 81 سنة ، وكان إماماً في التشيّع والكلام والشعر والبلاغة ، كثير التصانيف متبحّراً في فنون العلم. أخذ عن الشيخ المفيد ، وروى الحديث عن سهل الديباجي الكذّاب ، وولي النقابة بعده ابن أخيه عدنان ابن الشريف الرضي »(1) .
وفي « سير أعلام النبلاء » للحافظ الذهبي أيضاً ، ترجم له فقال : « هو جامع كتاب نهج البلاغة » ثمّ قال : « وقيل : بل جمع أخيه الشريف الرضي »(2)فعلّق عليه الناشرون له : « وهذا هو المشهور » .
وهذه الاضطرابات في التشكيكات تكشف عن أنّ الغاية منها ليس إلاّ تضعيف الكتاب بكلّ وسيلة ، وليس إلاّ لأنّهم منزعجون من الخطبة الشقشقية.. ولذا تراه يقول في « الميزان » موضّحاً علّة الجزم بكون الكتاب مكذوباً : « ففيه السبّ الصرّاح … » ويقول في « سيرأعلام النبلاء » : « المنسوبة ألفاظه إلى الإمام عليّ رضي الله عنه ، ولا أسانيد لذلك ، وبعضها باطل ، وفيه حقّ ، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها ».
ولا يخفى الفرق بين العبارتين في الكتابين حول الكتاب ، وهذا دليل آخر على الاضطراب.
وعلى كلّ حال ، فقد حقّق هذه القضيّة غير واحد من المحقّقين ، وجزموا بكون الكتاب للشريف الرضيّ محمّد بن الحسين.
وقال الشيخ محمّد عبده : « ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيّد الشريف الرضيّ ـ رحمه الله ـ من كلام سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب ، كرّم الله وجهه ، جمع متفرّقه وسمّاه هذا الاسم : نهج البلاغة… »(3) .
وقال الأستاذ محمّد كرد علىّ ، في مقال نشرته مجلّة المجمع العلمي السوري : « ونهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي من كلامه… »(4) .
وقال الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد : « نهج البلاغة هو ما اختاره الشريف الرضي… »(5) .
وإن شئت الوقوف على حقيقة كتاب « نهج البلاغة » ومصادره ، وما قيل فيه ، ونصوص العلماء والمحقّقين على أنّه خطب وكتب وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنّه من تآليف الشريف الرضي ، فراجع كتاب « مصادر نهج البلاغة وأسانيده ».

* قال السيّد :
وقوله عليه السلام : « نحن شجرة النبوّة ، ومحطّ الرسالة ، ومختلفالملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم(6)… »(7).
وأضاف في الهامش : « وقال ابن عبّاس : نحن أهل البيت ، شجرة النبوّة ، ومختلف الملائكة ، وأهل البيت الرسالة ، وأهل بيت الرحمة ، ومعدن العلم » ( قال ) : نقل هذه الكلمة عنه جماعة من أثبات السنّة ، وهي موجودة في آخر باب خصوصيّاتهم صفحة 142 من الصواعق المحرقة لابن حجر ».

أقول :
وأخرج الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده عن جابر بن عبد الله وعبد الله ابن عبّاس في خبر هبوط ملك الموت لقبض روح النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أنّه وقف بالباب فقال : « السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة… »(8) .
وروى الحمّوئي عن طريق الحافظ أبي نعيم ، عن الحافظ الطبراني ، بإسناده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « نحن أهل البيت مفاتيح الرحمة ، وموضع الرسالة ، ومختلفالملائكة ، ومعدن العلم… »(9) .
وقد ذكرنا من قبل : أنّ مضمون هذا الكلام حقيقة لا تحتاج إلى إثبات ، وهو بالإضافة إلى كونه مرويّاً عن ملك الموت مخاطباً النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته ، كما في رواية الطبراني وغيره ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام ، كما في ( النهج ) مرويّ عن ابن عبّاس كما ذكر السيّد في الهامش.

قيل :
« لم يبيّن لنا المؤلّف من هم الأثبات الّذين نقلوا هذه العبارة ؟ ومع أنّه نقلها عن الصواعق لكنّ أمانته دفعته إلى أن يتغاضى عن قول ابن حجر الهيتمي عندما نقلها فقال : وجاء عن ابن عبّاس بسند ضعيف أنّه قال : نحن…
وقول ابن عبّاس ـ على فرض صحّته ـ يدلّ على خلاف ما تذهب إليه الرافضة من أنّ أهل البيت هم : علىّ وفاطمة وأبناؤهما فقط. لكن أهل السنّة عمدتهم في تحديد من هم أهل البيت على الكتاب والسنّة الصحيحة ، لا على أقوال ضعيفة أو موضوعة ».

أقول :
يقول السيّد : « نقل هذه الكلمة عنه جماعة من أثبات السنّة » وهذا هو محلّ الاستدلال ، إذ المقصود ـ كما قلنا سابقاً ـ رواية أثبات أهل السُنّة في كتبهم المعروفة ، لما يدلّ على ما تذهب عليه الشيعة ، فيكون المطلب متّفقاً عليه ، أمّا أن أولئك الأثبات يروون الأخبار الضعيفة والموضوعات مع علمهم بكونها كذلك فيكونون من الكاذبين ، فما ذنب الشيعة ؟!
ومن رواته : ابن الأثير ، حيث رواه بسند له يشتمل على بعض الحفّاظ المشاهير ، قائلاً : « أخبرنا أبو ياسر بن أبي حبّة وغير واحد ـ إجازة ـ قالوا : أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد ، أخبرنا أبو الحسين بن النقور ، أخبرنا المخلّص ، حدّثنا يحيى بن محمّد بن صاعد ، حدّثنا يوسف بن محمّد بن سابق ، حدّثنا أبو مالك الجنبي ، عن جويبر ، عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس ، قال : نحن أهل البيت شجرة النبوّة ، ومختلف الملائكة ، وأهل بيت الرسالة ، وأهل بيت الرحمة ، ومعدن العلم »(10) .
وأمّا الاستدلال بخصوص « الصواعق المحرقة » فلأنّ هذا الكتاب إنّما ألّف للردّ على الشيعة والصدّ عن انتشار التشيّع ، يقول ابن حجر في خطبته :
« سئلت قديماً في تأليف كتاب يبيّن حقّيّة خلافة الصدّيق وإمارة ابن الخطّاب ، فأجبت إلى ذلك مسارعةً في خدمة هذا الجناب… ثمّ سئلت في إقرائه في رمضان سنة 950 بالمسجد الحرام ، لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكّة المكرّمة ، أشرف بلاد الإسلام ، فأجبت إلى ذلك ، رجاءً لهداية بعض من زلّ به قدمه عن أوضح المسالك »(11).
وبما ذكرنا يظهر الوجه في عدم الاعتناء بتضعيفه.
على أنّه إذا كان ابن حجر ممّن يعتمد على آرائه ، كان تصحيحه أيضاً معتبراً ، لكنّ هذا القائل لا يعتني به متى صحّح حديثاً من أحاديث الفضائل ويقول بأنّ ابن حجر ليس من علماء الحديث. والحال أنّه من كبار أئمّة الفقه والحديث.
بل السبب في توهين ابن حجر ، هو كونه ممّن أفتى بصراحة بضلالة ابن تيميّة الذي هوشيخ إسلام نواصب هذا العصر…!!
وأمّا أنّ « أهل البيت » في « آية التطهير » و« أحاديث الثقلين » ونحوها هم « عليّ وفاطمة والحسنان » فسيأتي توضيحه على أساس الكتاب والسنّة الصحيحة ، فانتظر.

قال السيّد :
« وقوله عليه السلام : نحن النجباء ، وأفراطنا أفراط الأنبياء ، وحزبناحزب الله عزّوجلّ ، والفئة الباغية حزب الشيطان ، ومن سوّى بيننا وبين عدوّنا فليس منّا »(12).
قال في الهامش : « نقل هذه الكلمة عنه جماعة كثيرون ، أحدهم ابن حجر ، في آخر باب خصوصيّاتهم من آخر الصواعق ، صفحة 354 وقد أرجف فأجحف ».

أقول :
جاء هذا في كتاب « فضائل الصحابة » وهذا نصّه :
« فيما كتب إلينا محمّد بن عبيدالله بن سليمان يذكر أن موسى بن زياد حدّثهم ، قال :
ثنا يحيى بن يعلى ، عن بسّام الصيرفي ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن رشيد بن أبي راشد ، عن حبّة ـ وهو العرني ـ ، عن عليّ ، قال :
نحن النجباء ، وأفراطنا أفراط الأنبياء ، وحزبنا حزب الله ، وحزب الفئةالباغية حزب الشيطان ، ومن سوّى بيننا وبين عدوّنا فليس منّا »(13) .
وأخرجه الحافظ ابن عساكر بترجمة أمير المؤمنين عليه السلام ، قال :
« أخبرنا أبو القاسم السمرقندي ، أنبأنا أبو الحسين ابن النقور ، أنبأنا أبو طاهر المخلّص ، أنبأنا أحمد بن عبد الله بن يوسف ، أنبأنا عمر بن شبّة ، أنبأنا أبو أحمد الزبيري ، أنبأنا الحسن بن صالح ، عن الحسن بن عمرو ، عن رشيد ، عن حبّة ، قال :
سمعت عليّاً يقول : نحن النجباء ، وأفراطنا أفراط الأنبياء ، وحزبنا حزبالله ، والفئة الباغية حزب الشيطان ، ومن سوّى بيننا وبين عدوّنا فليس منّا »(14) .
وأخرجه الحافظ السخاوي في « استجلاب ارتقاء الغرف »(15) .
وابن حجر المكّي في « الصواعق المحرقة » في باب « خصوصيّاتهم الدالّة على أعظم كراماتهم »(16).
هذا ، ولا يخفى اعتبار سند هذا الحديث ، وصحّة الاحتجاج به ، لأنّ رواته أئمّة في الحديث ، وفطاحل ثقات ، لا يظنّ بهم أن يعتمدّوا رواية خبر مكذوب وهم يعلمون !
أُنظر إلى سنده في « تاريخ دمشق »(17) :
* فابن عساكر حافظ ثقةً جليل ، غنيّ عن التعريف.
* وأبو القاسم السمرقندي ، قال الذهبي : « الشيخ الإمام المحدّث ، المفيد المسند ،أبو القاسم إسماعيل بن أحمد… » ثمّ نقل ثقته عن غير واحد ، وأرّخ وفاته بسنة 536(18) .
* وأبو الحسين ابن النقور ، قال الذهبي : « الشيخ الجليل الصدوق ، مسند العراق ، أبو الحسين أحمد بن محمّد بن أحمد… » ثمّ نقل ثقته عن جماعة ، وأرّخ وفاته بسنة 470(19) .
* وأبو طاهر المخلّص ، قال الذهبي : « الشيخ المحدّث المعمّر الصدوق ، أبو طاهر محمّدبن عبد الرحمن… » ثمّ نقل ثقته عن جماعة ، وأرّخ وفاته بسنة 393(20) .
* وأحمد بن عبد الله بن سيف السجستاني ، ترجم له الذهبي في تاريخ الإسلام ، حوادث سنة 316 ، والخطيب في تاريخه 4 : 225 ، والأسنوي في طبقات الشافعية 1 : 317 ، وابن قاضي شهبة 1 : 89 ، وقد أثنى عليه جميعهم.
* وعمر بن شبّة ، قال الذهبي : « عمر بن شبّة بن عبدة بن زيد بن رائطة العلاّمة الأخباري ، الحافظ الحجّة ، صاحب التصانيف… » ونقل ثقته عن جماعة ، وأرّخ وفاته بسنة 262 ، عن 89 سنة إلاّ أياماً(21) .
* وابو أحمد الزبيري ، قال الذهبي : « أبو أحمد الزبيري ، محمّد بن عبدالله ابن الزبير بن عمر بن درهم ، الحافظ الكبير المجوّد… » ثمّ نقل ثقته والثناء عليه ، وأرّخ وفاته بسنة 203(22) .
* والحسن بن صالح ، قال الذهبي : « الإمام الكبير ، أحد الأعلام ، أبو عبد الله الهمداني الثوري الكوفي ، الفقيه العابد… » ثمّ أطنب في ترجمته ، ونقل الكلمات في حقّه ، وأرّخ وفاته بسنة 169(23) . وقال ابن حجر : « ثقة ، فقيه عابد ، رمي بالتشيّع »(24) .
* والحسن بن عمرو الفقيمي ، قال ابن حجر : « ثقة ثبت ، من السادسة ، مات سنة 142 »وجعل عليه علامة رواية : البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجة ، عنه(25) .
* ورشيد ، وهو الهجري ، من أصحاب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يكفي لوثاقته رواية هؤلاء الأئمّة لهذا الحديث عنه ، إلاّ أنّهم نقموا عليه تشيّعه للإمام عليه السلام ، وروايته لفضائله ومناقبه كما لا يخفى على من نظر في ترجمته في « لسان الميزان » وغيره ، فهم لا ينفون وثاقته ولا يرمونه بالكذب ، إلاّ أنّهم يقولون ـ كما في « الأنساب » ـ : « كان يؤمن بالرجعة » وينقلون عن يحيى ابن معين ـ مثلاً ـ أنّه قال في جواب من سأله عنه : « ليس برشيد ولا أبوه ».
* وحبّة العرني ، قال ابن حجر : « صدوق ، له أغلاط ، وكان غالياً في التشيّع ، من الثانية ، وأخطأ من زعم أنّ له صحبة »(26) .
أقول :
وقد قصدنا ببيان اعتبار سند هذا الحديث الشريف ـ على أساس كتب القوم ـ اُموراً :
الأوّل : إنّ هذا الحديث معتبر سنداً على ضوء كتبهم وآراء علمائهم ، وحينئذ يكون هذا الكلام القول الفصل ، وإنّ على الّذين يدّعون التمسّك بالسنّة الكريمة ، والسير على هدي الإسلام ، والاتّباع للأحاديث الصحيحة… الالتزام بهذاالحديث وبلوازمه…
والثاني : إنّ السيّد ـ رحمه الله ـ يذكر بعض المصادر ويشير إلى سائرها بقوله : «رواه جماعة » اختصاراً ، فلو كان أراد التفصيل لأورد أسماء رواته ودلّل على اعتبار سنده وصحّة الاحتجاج به ، لكنّ الشيخ البشري ـ وهو المخاطب له أوّلا وبالذات ـ مطّلع على ما يقوله السيّد ، فتكفي الإشارة.
والثالث : إن الحقّ مع السيّد في قوله عن ابن حجر المكّي : « وقد أرجف فأجحف » لأنّه قال : « وجاء عن ابن عبّاس بسند ضعيف… » إذ قد عرفت اعتبار السند وصحّة الاحتجاج لنا به.

قيل :
« قوله : ( ونقل هذه الكلمة عنه جماعة كثيرون ، أحدهم ابن حجر… ) لا يغني عنه شيئاً ، فهل يتحوّل الكذب إلى صدق إذا كثر ناقلوه ؟ ».

أقول :
هذا كلام باطل ، لأنّ الكذب لا يتحوّل إلى صدق إذا كثر ناقلوه ، لكنّ هذا الحديث حقّ وصدق لا « كذب ». على أنّه لو كان كذباً لم يخل حال ناقليه عن أحد حالين :
إمّا أن يكونوا جاهلين بكونه كذباً … وهذا لا يلتزم به هذا القائل ولا غيره ، وكيف يلتزم بجهل نقلة هذا الحديث بحاله ، وهم أئمّة الحديث المرجوع إليهم في روايته ومعرفته ؟! إذ فيهم :
محمّد بن سليمان المطيّن.
وعبد الله بن أحمد بن حنبل.
والحسن بن عمر الفقيمي.
والحسن بن صالح بن حي.
وأبو أحمد الزبيري الحبّال.
وعمر بن شبّة.
وأبو طاهر المخلّص.
وابن السمرقندي.
وابن عساكر.
والسخاوي…
وإمّا أن يكونوا عالمين بكونه كذباً.. وهذا أيضاً لا يلتزم به القائل ولا غيره ، لأنّ معناه أن يتعمّد هؤلاء الأئمّة الثقات الفطاحل نقل حديث كذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيسقطون عن العدالة والوثاقة ، ويعدّون في جملة من تعمّد الكذب عليه ، ومن كذب على الرسول الأمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين !

* قال السيّد :
« وخطب الإمام المجتبى أبو محمّد الحسن السبط سيّد شباب أهل الجنّة فقال : إتّقوا الله فينا فإنّا أمراؤكم »(27).
قال في الهامش : « فراجعها في أواخر باب وصيّة النبيّ بهم ، من الصواعق المحرقة لابن حجر ، صفحة 343 ».

قيل :
« راجعناها في الصواعق 229 ، فوجدنا المؤلّف الموسوي قد سلخها من كلام الحسن لأمر ما. يقول ابن حجر : وقد صرّح الحسن رضي الله عنه بذلك ، فإنّه حين استخلف وثب عليه رجل من بني أسد فطعنه وهو ساجد بخنجر لم يبلغ منه مبلغاً ، ولذا عاش بعده عشر سنين فقال : يا أهل العراق ، اتّقوا الله فينا ، فإنّا أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل البيت الّذين قال الله عزّ وجلّ فيهم : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(28)(29) . قالوا : ولأنتم هم ؟ قال : نعم(30) .
ويكفي هذا الكلام ضعفاً أن رواه الثعلبي في تفسيره كما صرّح بذلك في الصواعق ».
أقول :
أوّلا : راجعناها في الصواعق ، فوجدنا هذا المفتري قد أضاف إلى رواياتها جملة « قالوا … » وهذا المورد من جملة تحريفاته للروايات والعبارات !
وثانياً: يكفي وروده في كتب أهل السُنّة ، إذ يكون بذلك مورد اتّفاق المسلمين ، ولا ريب في وجوب الأخذ بكلّ أمر حقّ وقع الاتّفاق عليه.
وثالثاً : هذا الكلام رواه الحافظ الطبراني ، ونصّ الحافظ نور الدين الهيثمي ـ في كتابه الذي اعتمد عليه المعترض في مواضع ! ـ على أنّ « رجاله ثقات ». وهذا نصّ الرواية في باب فضل أهل البيت رضي الله عنهم :
« وعن أبي جميلة : إنّ الحسن بن عليّ حين قتل عليّ استخلف ، فبينا هو يصلّي بالناس إذوثب إليه رجل فطعنه بخنجر في وركه ، فتمرّض منها أشهراً. ثمّ قام فخطب على المنبر فقال :
يا أهل العراق ، اتّقوا الله فينا فإنّا أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل البيت الّذين قال الله عزّ وجلّ : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ). فما زال يومئذ يتكلّم حتّى ما ترى في المسجد إلاّ باكياً.
رواه الطبراني. ورجاله ثقات »(31) .
وفيه فوائد :
1 ـ قوله عليه السلام : « إتّقوا الله فينا ». ثمّ علّل أمره بتقوى الله فيهم بقوله « فإنّا أمراؤكم ».
2 ـ قوله عليه السلام : « ونحن أهل البيت الّذين… » يفيد بكلّ وضوح حصر الآية الكريمة فيه وفي والديه وأخيه.
3 ـ ليس في هذه الرواية الصحيحة ـ باعتراف الحافظ الهيثمي ـ جملة : « لأنتم هم ؟ قال : نعم ». وعدمها في هذه الرواية الصحيحة دليل على :
1 ـ إذعان المسلمين بكون « أهل البيت » في الآية ونحوها هم : الحسنان ووالداهما ، دون غيرهم ، وكون هذا المعنى مسلّماً مفروغاً عنه بينهم .
2 ـ إنّ بعض النواصب لمّا رأوا دلالة هذا الحديث على ما ذكرنا زادوا فيه تلك الجملة ، لتفيد جهل المسلمين أو شكّهم فيما قاله الإمام عليه السلام واستدلّ به.
وثالثاً : قوله : « يكفي هذا الكلام ضعفاً أن رواه الثعلبي في تفسيره كما صرّح بذلك في الصواعق » مردود بوجوه :
1 ـ قد ظهر أنّ الكلام صحيح لا ضعيف.
2 ـ قد ظهر أنّ روايته غير منحصرة بالثعلبي في تفسيره.
3 ـ إنّ رواية الثعلبي لفضيلة من فضائل أهل البيت عليهم السلام كافية لشيعتهم في مقام الاستدلال ، وذلك :
أ ـ لأنّ مجرّد وجودها في كتب القوم كاف.
ب ـ لأنّ الرواية إذا صح سندها يجب الأخذ بها في أيّ كتاب من كتبهم كانت ، وهذا ما نصّ عليه المعترض.
ج ـ ولأنّ الثعلبي موصوف عندهم بصفات جليلة ، وتفسيره « الكشف والبيان » من التفاسيرالمعتمدة عندهم ، كما لا يخفى على من راجع ترجمته في المصادر التالية :

وفيات الأعيان 1 : 79 ، الوافي بالوفيات 7 : 307 ، العبر 2 : 255 ، مرآة الجنان 3 : 36 ، تتمّة المختصر 1 : 332 ، بغية الوعاة 1 : 356 ، طبقات المفسّرين 1 : 66 ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ 4 : 58 ، طبقات الشافعية ـ للأسنوي ـ 1 : 159 ، وغيرها.
قال السبكي : « وكان أوحد زمانه في علم القرآن… »
وقال الأسنوي : « ذكره ابن الصلاح والنووي من الفقهاء الشافعية ، وكان إماماً في اللغة والنحو… ».
وقال الداودي : « كان أوحد أهل زمانه في علم القرآن ، حافظاً للّغة ، بارعاً في العربيّة ، واعظاً ، موثقاً ».
لكنّ الثعلبي لمّا أكثر من نقل روايات فضائل العترة وأخبار نزول الآيات فيهم… رماه ابن تيميّة وأتباعه بالتساهل في النقل ، وحاولوا إسقاط رواياته المسندة عن الإعتبار.
بقي : قوله : « قد سلخها من كلام الحسن لأمر مّا ».
ولا يخفى : أنّه كلام جاهل أو متجاهل ، إذ المهمّ هو الإستشهاد بكلام الإمام عليه السلام الثابت بالسند الصحيح.. أمّا أنّه في أيّ مناسبة قاله ؟ وما كان المورد له ؟ فهذا لا علاقة له بالبحث ، ولا يخصّص مدلول الكلام ألبتّة.

* قال السيّد :
« وكان الإمام أبو محمّد عليّ بن الحسين زين العابدين وسيّد الساجدين إذا تلا قوله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصّادقين )(32) يدعو الله عزّ وجلّ دعاءً طويلاً… »(33).
قال في الهامش : « فراجعه في صفحة 233 من الصواعق المحرقة لابن حجر ، في تفسير الآية الخامسة : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ) من الآيات التي أوردها في الفصل الأوّل من الباب 11 ».

أقول :
لم يتقوّل المعترض بشي حول هذا الكلام المنقول عن الإمام زين العابدين عليه السلام.
وفي هذه الرواية فوائد :
1 ـ إشارة إلى نزول قوله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين )(34) فيهم عليهم السلام.
2 ـ إشارة إلى نزول قوله تعالى : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً )(35) فيهم عليهم السلام.
3 ـ إشارة إلى نزول قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(36) فيهم عليهم السلام.
4 ـ إشارة إلى قوله النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي… ».
5 ـ تصريح بانحصار « الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم » فيهم.
6 ـ تصريح بأنّهم « الّذين احتجّ الله بهم على عباده ولم يدع الخلق سدىً من غير حجّة ».
وسكوت الرجل عن هذه الرواية ـ وهو في مقام الردّ ـ دليل على إقراره بصحّة سندها ، ولا مناص له من قبولها والالتزام بمضامينها.
ولا يخفى أنّ ذكر ابن حجر المكّي هذه الرواية بتفسير قوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعاً )(37) شاهد على أنّ المراد من « حبل الله » فيها هم الأئمّة من العترة النبويّة ، وهو مرويّ عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام(38) ، وبه قال بعض المفسّرين(39) .

(1) العبر في خبر من غبر 2 : 272 .
(2) سير أعلام النبلاء 17 : 589 .
(3) شرح نهج البلاغة ـ المقدّمة .
(4) تراثنا ، العدد 34 ، ص 100 ـ 101 ، محرّم ـ ربيع الأوّل 1414 هـ .
(5) شرح نهج البلاغة ـ المقدّمة .
(6) نهج البلاغة : 162 / الخطبة 109 .
(7) المراجعات : 11 .
(8) المعجم الكبير 3 : 58 / 2676 .
(9) فرائد السمطين 1 : 44 .
(10) أُسد الغابة 3 : 187 .
(11) الصواعق المحرقة : 9 .
(12) المراجعات : 12 .
(13) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2 : 679 / 1160 .
(14) تاريخ مدينة دمشق 42 : 459 .
(15) استجلاب ارتقاء الغرف 2 : 561/298 .
(16) الصواعق المحرقة : 354 .
(17) نكتفي في الترجمة بقدر الضرورة اختصاراً .
(18) سير أعلام النبلاء 20 : 28 .
(19) سير أعلام النبلاء 18 : 372 .
(20) سير أعلام النبلاء 16 : 478 .
(21) سير أعلام النبلاء 12 : 369 .
(22) سير أعلام النبلاء 9 : 529 .
(23) سير أعلام النبلاء 7 : 361 .
(24) تقريب التهذيب 1 : 167 .
(25) تقريب التهذيب 1 : 169 .
(26) تقريب التهذيب 1 : 148 .
(27) المراجعات : 12 .
(28) سورة الاحزاب 33 : 33 .
(29) الصواعق المحرقة : 214 .
(30) ما بعد الآية الشريفة لم يرد في الصواعق وانما هي رواية اخرى عن علي بن الحسين (ع) في الشام . راجع : جامع البيان للطبري 22 : 7 ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 6 : 416 .
(31) مجمع الزوائد 9 : 172 .
(32) سورة التوبة 9 : 119 .
(33) المراجعات : 12 .
(34) سورة التوبة 9 : 119 .
(35) سورة الاحزاب 33 : 33 .
(36) سورة الشورى 42 : 23 .
(37) سورة آل عمران 3 : 103 .
(38) الكشف والبيان 3 : 163 .
(39) منهم : الثعلبي الذي أشرنا إلى ترجمته قريباً ، نقل ذلك عنه جماعة منهم ابن حجر في « الصواعق » .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *