1_ إسناده المكان والجهة إلى الله

إسناد ابن تيميّة المكانيّة والجهة إلى الله تعالى

يقول ابن تيميّة في الردّ على العلاّمة: «قوله: كلّ ما هو في جهة فهو محدث، لم يذكر عليه دليلا، وغايته ما تقدم من أنّ الله لو كان في جهة لكان جسماً، وكلّ جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وكلّ هذه المقدمات فيها نزاع، فمن الناس من يقول: قد يكون في الجهة ما ليس بجسم، فإذا قيل له: هذا خلاف المعقول. قال: هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى، وان ردّ هذا ردّ ذاك بطريق الأولى، وإذا ردّ ذاك تعيّن أن يكون في الجهة، فثبت أنّه في الجهة على التقديرين»(1).
قال: «وجمهور الخلق على أن الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة، فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم أن ربّهم فوق، ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه، كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لبعض من أخذ ينكر الإستواء ويقولون: لو استوى على العرش لقامت به الحوادث. فقال أبو جعفر ما معناه: إن الإستواء علم بالسّمع، ولو لم يرد به لم نعرفه، وأنت قد تتأوّله، فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنّه ما قال عارف قط يا الله إلاّ وقبل أن ينطق بلسانه يجد في قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنةً ولا يسرة، فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ فلطم المتكلّم رأسه وقال: حيّرني الهمداني، حيّرني الهمداني، حيّرني الهمداني.
ومضمون كلامه: أن دليلك على النفي لو صح فهو نظري ونحن نجد عندنا علماً ضرورياً بهذا، فنحن مضطرّون إلى هذا العلم وإلى هذا القصد، فهل عندك من حيلة في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذين يلزمنا لزوماً لا يمكننا دفعه عن أنفسنا؟ ثم بعد ذلك قرّر نقيضه، وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن، لأنّ النظريّات غايتها أن يحتجّ عليها بمقدمات ضرورية، فالضروريات أصل النظريّات، فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحاً في أصل النظريات، فتبطل الضروريات والنظريات، فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير، إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضي فساده في نفسه، وإذا فسد في نفسه بطل قدحه، فيكون قدحه باطلا على تقدير صحته وعلى تقدير فساده، فإنّ صحّته مستلزمة لصحّة أصله، فإذا صحَّ كان أصله صحيحاً، وفساده لا يستلزم فساد أصله، إذ قد يكون الفساد منه، ولو قدح في أصله للزم فساده، وإذا كان فاسداً لم يقبل قدحه، فلا يقبل قدحه بحال…
وأيضاً: فإن هؤلاء قرّروا ذلك بأدلّة عقليّة، كقولهم: كلّ موجودين إمّا متباينان وإمّا متداخلان، وقالوا: إن العلم بذلك ضروري، وقالوا: إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل.
وأيضاً: فمن المعلوم إن القرآن نطق بالعلو في مواضع كثيرة جدّاً، حتى قد قيل إنها نحو ثلثمائة موضع، والسنن متواترة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثل ذلك، وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي إتفاقهم على ذلك، وأنه لم يكن فيهم من ينكره.
ومن يريد التشنيع على الناس، ودفع هذه الأدلّة الشرعية والعقليّة، لابدّ أن يذكر حجّة»(2).
ويقول في الرسالة التدمرية بعنوان «تنازع الناس في الجهة والتحيّز»:
«… وقد علم أن ما ثمَّ موجود إلاّ الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى… ليس في مخلوقاته شيء من ذاته… ولا في ذاته شيء من مخلوقاته…
فيقال لمن نفى: أتريد بالجهة ما وراء العالم… فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات. ويقال لمن قال: الله في جهة: أتريد بذلك: أن الله فوق العالم… أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات… فإن أردت الأول فهو حق… وإن أردت الثاني فهو باطل… وكذلك لفظ التحيّز…
.. إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات، فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيّه السموات والأرض.. وقد قال تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض. وفي حديث آخر: وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة. وفي حديث ابن عباس: ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلاّ كخردلة في يد أحدكم.
… وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها.. فهو سبحانه ـ كما قال أئمة السنّة ـ فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه…»(3).
ويقول ردّاً منه على من طلب منه نفي الجهة والحيّز:
«.. أما القول الذي لا يوجد في كلام الله ورسوله لا منصوصاً ولا مستنبطاً بل يوجد في الكتاب والسنّة مما يناقضه ما لا يحصيه إلاّ الله. فكيف يجب على المؤمنين عامة أو خاصة اعتقاده ويجعل ذلك محنة لهم.
ومن المعلوم أنه ليس في الكتاب والسنّة، ولا في كلام أحد من سلف الأمّة ما يدلّ نصاً ولا استنباطاً على أن الله ليس فوق العرش، وأنه ليس فوق المخلوقات وأنه ما فوق العالم رب يعبد ولا على العرش إله يدعى ويقصد، وما هناك إلاّ العدم المحض، وسواء سمّي ثبوت هذا المعنى قولا بالجهة والتحيّز أو لم يسمّ. فتنوع العبارات لا يضر إذا عرف المعنى المقصود…»(4).
وابن تيمية.. إذ يفصح عن خصومته العنيفة لنفاة الجهة والحيّز عن الله تعالى… يتّهمهم بالنفاق… يقول:
«… وأما إن تضمّن هذا الكلام أن الله ليس على العرش ولا فوق العالم فليصرح بذلك تصريحاً بيّناً، حتى يفهم المؤمنون قوله وكلامه ويعلموا مقصوده ومرامه. فإذا كشف للمسلمين حقيقة هذا القول، وأن مضمونه أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله، وأن الملائكة لا تعرج إلى الله ولا تصعد إليه ولا تنزل من عنده، وأن عيسى لم يرفع إليه، ومحمّد لم يعرج به إليه، وأن العباد لا يتوجّهون بقلوبهم إلى إله هناك يدعونه ويقصدونه، ولا يرفعون أيديهم في دعائهم اليه. فحينئذ ينكشف للناس حقيقة هذا الكلام، ويظهر الضوء من الظلام.
ومن المعلوم أن قائل ذلك لا يجترىء أن يقوله في ملأ من المؤمنين، وإنما يقوله بين إخوانه من المنافقين… الذين إذا اجتمعوا يتناجون وإذا افترقوا يتهاجون، وهم وإن زعموا أنهم أهل المعرفة المحققين، فقد شابهوا من سبق من إخوانهم المنافقين…»(5).
ويقول:
«.. والبارىء سبحانه فوق العالم فوقيّة حقيقيّة ليس فوقية الرّتبة، كما أن التقدم على الشيء قد يقال إنه بمجرد الرتبة ـ كما يكون بالمكان ـ مثل تقدم العالم على الجاهل وتقدم الإمام على المأموم… فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك. بل هو قبلية حقيقية.. وكذلك العلو على العالم.
وقد يقال: إنه يكون بمجرد الرتبة كما يقال العالم فوق الجاهل، وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك، بل هو عال عليه علوّاً حقيقياً، العلو المعروف والتقدم المعروف».
فيقول الكوثري في تعليقه على هذا النص:
«.. فهل يشك عاقل أن ابن ـ تيمية يريد بذلك الفوقية الحسيّة والعلو الحسي ـ تعالى الله عما يؤفكون ـ واستعمال العلوّ ومشتقاته في اللغة العربية بمعنى علو الشأن في غاية الشهرة، رغم تقوّل المجسمة»(6).
ومن العجب أن ابن تيمية يقرّ أن من معاني العلو: علوّ الشأن، كما يقال: العالم فوق الجاهل.. ومع ذلك ينفي هذا المعنى ويثبت العلو الحسّي.
ويقول: «إنّ الله تعالى يجلس على الكرسي، وقد أخلى منه مكاناً يقعد فيه معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
يقول هذا في (كتاب العرش) قال الزبيدي: «قال السبكي: وكتاب العرش من أقبح كتبه، ولمّا وقف عليه الشيخ أبو حيّان ما زال يلعنه حتى مات، بعد أن كان يعظّمه»(7).
وذكره كاشف الظنون بقوله: «كتاب العرش وصفته… لابن تيمية، ذكر فيه أن الله تعالى يجلس على الكرسي، وقد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذكره أبو حيّان في النهر في قوله سبحانه وتعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ) وقال: قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيميّة ما صورته بخطّه…»(8).
ويقول ابن القيّم في ذمّ المخالفين لشيخه ابن تيميّة في نونيّته:
وإذا أردت ترى مصارع من خلا *** من اُمة التعطيل والكفران
وتراهم أسرى حقيرٌ شأنهم *** أيديهم غلّت إلى الأذقان
وتراهم تحت السيوف رديئة *** ما فيهم من فارس طعّان
وتراهم تحت السيوف تنوشهم *** من عن شمائلهم وعن أيمان
وتراهم انسلخوا من الوحيين *** والعقل الصحيح ومقتضى القرآن
وتراهم ـ والله ـ ضحكة ساخر *** ولطالما سخروا من الإيمان
قد أوحشت منهم ربوع زادها *** الجبّار إيحاشاً مدى الأزمان
وخلت ديارهم وشتت شملهم *** ما فيهم رجلان مجتمعان
قد عطّل الرحمن أفئدةً لهم *** من كلّ معرفة ومن إيمان
إذ عطّلوا الرحمن من أوصافه *** والعرش أخلوه من الرحمن
بل عطّلوه عن الكلام وعن صفات *** كماله بالجهل والبهتان
فاقرأ تصانيف الإمام حقيقةً *** شيخ الوجود العالم الربّاني
أعني أبا العباس أحمد ذلك *** البحر المحيط بسائر الخلجان
فقال شارحه ـ وهو الدكتور هرّاس ـ:
«جميع الحكماء قد اتّفقوا على أنّ الله وملائكته في السماء، كما اتّفقت جميع الشرائع على ذلك. وممّن حكى هذا الإجماع كذلك شيخ الإسلام أبو العبّاس أحمد ابن عبد الحليم ابن تيميّة الحرّاني الدمشقي، الذي لم يأتِ الزمان بنظير له…»(9).
وهكذا يدّعي ابن تيميّة الإجماع ويكفّر من لا يقول بقوله! فيقول: «… وأما قولهم: الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي عن الله التحيّز. فالجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شيء من كتب الله المنزلة من عنده، ولا هو مأثور عن أحد من أنبياء الله ورسله لا خاتم المرسلين ولا غيره، ولا هو أيضاً محفوظاً عن أحد من سلف الأمّة وأئمتها أصلا، وإذا كان بهذه المثابة.. وقد علم أن الله أكمل لهذه الأمة دينها، وأن الله بيّن لهذه ما تتقيه كما قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)الآية وقال: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن للأمة الإيمان الذي أمرهم الله به وكذلك سلف الأمة وأئمتها علم بمجموع هذين الأمرين: أن هذا الكلام ليس من دين الله، ولا من الإيمان، ولا من سبيل المؤمنين، ولا من طاعة الله ورسوله. وإذا كان كذلك فمن التزم اعتقاده فقد جعله من الإيمان والدين، وذلك تبديل للدّين كما بدّل من بدّل من مبتدعة اليهود والنصارى ومبتدعة هذه الأمة دين المرسلين.
يوضّح ذلك (الوجه الثاني) وهو أن الله نزّه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها وتارة بإثبات أضدادها، كقوله تعالى: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)وقوله تعالى (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ)… وكذلك الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم موافقة لكتاب الله، كقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: إنّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وقوله صلّى الله عليه وسلّم أيضاً فيما يروي عن ربه: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذّبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إيّاي فقوله: إني اتّخذت ولداً! وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، وأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني! وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته.
وقوله في حديث السنن للأعرابي: ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته، أو قال بيده مثل القبة، وإنه ليئطّ به أطيط الرحل الحديد براكبه. وقوله في الحديث الصحيح: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. إلى أمثال ذلك.
وليس في شيء من ذلك نفي الجهة والتحيّز عن الله، ولا وصفه بما يستلزم لزوماً بيّنا نفي ذلك، فكيف يصحّ مع كمال الدين وتمامه ومع كون الرسول قد بلّغ البلاغ المبين، أن يكون هذا من الدين والإيمان ثم لا يذكره الله ولا رسوله قطّ؟
وكيف يجوز أن يدعى الناس ويؤمرون باعتقاد في أصول الدين ليس له أصل عمّن جاء بالدين، هل هذا إلاّ صريح تبديل الدين…»(10).
وهكذا ينكر بشدّة على من ينفي الجهة والتحيّز عن الله تعالى، فيلزمه على ذلك القول بإثبات الجهة والتحيّز. فحيث نفى نفي الجهة لم يبق إلاّ الإثبات… وعلى هذا يمكن أن نقول إنه قال بثبوت الجهة والتحيّز باعتبار لازم كلامه… لاسيّما تحمّسه في بيانه، وقد عدّ الخارجين على رأيه خارجين على دين الله.. فنفاة الجهة والتحيّز قد بدّلوا دين الله.. على زعمه.
وهكذا يستمرّ في كلامه فيقول: «… الوجه الرابع: إنهم طلبوا اعتقاد نفي الجهة والحيز عن الله، ومعلوم أن الأمر بالإعتقاد لقول من الأقوال إما أن يكون تقليداً للآمر أو لأجل الحجة والدليل، فإن كانوا أمروا بأن يعتقد هذا تقليداً لهم ولمن قال ذلك، فهذا باطل بإجماع المسلمين منهم ومن غيرهم، وهم يسلّمون أنه لا يجب التقليد في مثل ذلك لغير الرسول، لا سيما وعندهم هذا القول لم يعلم بأدلّة الكتاب والسنّة والإجماع… وإن كان الأمر بهذا الإعتقاد لقيام الحجة عليه، فهم لم يذكروا حجة لا مجملة ولا مفصّلة ولا أحالوا عليها، بل هم يفرّون من المناظرة والمحاجة بخطاب أو كتاب. فقد ثبت أن أمرهم لهذا الإعتقاد حرام باطل على التقديرين بإجماع المسلمين، وإن فعل ذلك من أفعال الأئمة المضلّين.. وأنه أمر للناس أن يقولوا على الله ما لا يعلمون…»(11).
هذه بعض نصوصه… وإلاّ فكلامه في هذا كثير جدّاً.
لكنّ الرجل قد ناقض نفسه في مواضع اُخرى، فشمله التّضليل والتكفير، من ذلك قوله:
«ولمّا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لصاحبه في الغار: لا تحزن إنّ الله معنا، كان هذا أيضاً حقّاً على ظاهره، ودلّت الحال على أنّ حكم هذه المعيّة هنا: معيّة الإطلاع والتأييد والنّصر»(12).
وأيضاً يشمل كبار أئمة القوم كالغزالي والرّازي… وأمثالهما!
يقول الغزالي:
«… إذا سمع لفظ الفوق في قوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) وفي قوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ)فليعلم أن الفوق إسم مشترك يطلق لمعنيين: أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل، يعنى أن الأعلى من جانب رأس الأسفل، وقد يطلق لفوقية الرتبة وبهذا المعنى يقال: الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير وكما يقال العلم فوق العمل، والأول يستدعي جسماً ينسب إلى جسم، والثاني لا يستدعيه.
فليعتقد المؤمن قطعاً أن الأول غير مراد، وأنه على الله تعالى محال، فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام. وإذا عرف نفي هذا المحال فلا عليه إن لم يعرف أنه لماذا أُطلق وماذا أريد. فقس على ما ذكرناه مالم نذكره»(13).
وقد أثبت الفخر الرازي القرينة اللفظية التي تمنع من إرادة المعنى الظاهر… قال في الفصل الخامس في تفاريع مذهب السلف وهي أربع:
«.. الفرع الرابع إنه كما لا يجوز الجمع بين متفرق، فكذلك لا يجوز التفرّق بين مجتمع، فقوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) لا يدل على جواز أن يقال: إنه تعالى فوق، لأنه لما ذكر «القاهر» قبله ظهر أن المراد بهذه الفوقية: الفوقية بمعنى القهر لا بمعنى الجهة، بل لا يجوز أن يقال وهو القاهر فوق غيره بل ينبغي أن يقال فوق عباده، لأن ذكر العبودية عند وصف الله تعالى بالفوقية يدل على أن المراد من تلك الفوقية فوقية السيادة والإلهية..
.. واعلم أن الله تعالى لم يذكر لفظ المتشابهات إلاّ وقرن بها قرينة تدل على زوال الوهم الباطل، مثاله: أنه تعالى قال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ) ذكر بعده آية قرآنية فأضاف النور إلى نفسه. ولو كان تعالى نفس النور لما أضاف النور إلى نفسه. لأن إضافة الشىء إلى نفسه ممتنعة، ولمّا قال تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ذكر قبله (تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الاَْرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى).. وبعده (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) فقد ذكر أن هاتين الآيتين تدلاّن على أن كلّ ما كان مختصاً بجهة الفوقية مخلوق محدث»(14).
.. ثمّ إنّ الواجب أن ينظر إلى القرآن الكريم ككل، فإذا ما قرأنا آيات التنزيه كقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) وغيرها… كانت تلك الآيات وأمثالها قرائن تنزّه الله عزّوجلّ عن أن تفسر آيات أخرى على ظاهرها الموهم للمشابهة، بل تتناسق الآيات بعضها مع بعض. والقرآن يصدّق بعضه بعضاً.
… وللردّ على مطعن ابن تيمية فيمن يصرف اللفظ عن ظاهره بقوله: «… ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم، لأن مردّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالة…»(15)… ننقل رد الغزالي على مثل هذه الشبهات:
«… إن قال قائل: ما الذي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إطلاق هذه الألفاظ الموهمة مع الإستغناء عنها، أكان لا يدري أنه يوهم التشبيه ويغلط الخلق ويسوقهم إلى اعتقاد الباطل في ذات الله تعالى وصفاته، وحاشا منصب النبوة أن يخفى عليه ذلك، أو عرف لكن لم يبال بجهل الجهّال وضلالة الضلاّل، وهذا أبعد وأشنع، لأنه بعث شارحاً لا مبهماً ملبّساً ملغّزاً؟
وهذا إشكال له وقع في القلوب، حتى جرّ بعض الخلق إلى سوء الإعتقاد فيه فقالوا: لو كان نبيّاً لعرف الله، ولو عرفه لما وصفه بما يستحيل عليه في ذاته وصفاته. ومالت طائفة أخرى إلى اعتقاد الظواهر وقالوا: لو لم يكن حقّاً لما ذكره كذلك مطلقاً، ولعدل عنها إلى غيرها أو قرنها بما يزيل الإبهام عنها; فما سبيل حلّ هذا الإشكال العظيم؟».
ويجيب الغزالي:
«… الجواب: إن هذا الإشكال منحلّ عند أهل البصيرة وبيانه: إن هذه الكلمات ما جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفعة واحدة وما ذكرها، وإنما جمعها المشبّهة، وقد بينّا أن لجمعها من التأثير في الإيهام والتلبيس على الأفهام ما ليس لآحادها المفرقه، وإنما هي كلمات لهج بها في جميع عمره في أوقات متباعدة، وإذا اقتصر منها على ما في القرآن والأخبار المتواترة رجعت إلى كلمات يسيرة معدودة، وإن أضيفت إليها الأخبار الصحيحة فهي أيضاً قليلة، وإنما كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التي لا يجوز التعويل عليها، ثم ما تواتر منها إنّ صح نقلها عن العدول فهي آحاد كلمات، وما ذكر صلّى الله عليه وسلّم كلمة منها إلاّ مع قرائن وإشارات يزول معها إيهام التشبيه وقد أدركها الحاضرون المشاهدون، فإذا نقل الألفاظ مجردة عن تلك القرائن ظهر الإيهام. وأعظم القرائن في زوال الإيهام المعرفة السابقة بتقديس الله تعالى عن قبول هذه الظواهر، ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع، فينمحق معه الإيهام انمحاقا لا يشك فيه، ويعرف هذا بأمثلة:
الأول: إنه صلّى الله عليه وسلّم سمّى الكعبة بيت الله تعالى، وإطلاق هذا يوهم عند الصبيان وعند من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه لكن العوام الذين اعتقدوا أنه في السماء وأن استقراره على العرش ينمحق في حقّهم هذا الإيهام على وجه لا يشكّون فيه. فلو قيل لهم: ما الذي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إطلاق هذا اللفظ الموهم المخيل إلى السامع أن الكعبة مسكنه، لبادروا بأجمعهم وقالوا: هذا إنما يوهم في حق الصبيان والحمقى، أما من تكرّر على سمعه أن الله مستقر على عرشه فلا يشك عند سماع هذا اللفظ أنه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه، بل يعلم على البديهة أن المراد بهذه الإضافة تشريف البيت أو معنى سواه غير ما وضع له لفظ البيت المضاف إلى ربه وساكنه. أليس كان اعتقاده أنه على العرش قرينةً أفادته علماً قطعياً بأنه ما أريد بكون الكعبة بيته أنه مأواه، وأن هذا يوهم في حق من لم يسبق إلى هذه العقيدة؟
فكذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاطب بهذه الألفاظ جماعة سبقوا إلى علم التقديس ونفي التشبيه، وأنه منزّه عن الجسمية وعوارضها، وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للإيهام لا يبقى معه شك، وإن جاز أن يبقى لبعضهم تردد في تأويله وتعيين المراد به من جملة ما يحتمله اللفظ ويليق بجلال الله تعالى…».
وقد أتى الغزالي بأمثلة كثيرة أخرى… ثم أعقبها بقوله:
«… فكذلك هذه الظواهر الموهمة، انقلبت عن الإيهام بسبب تلك القرائن الكثيرة التي بعضها هي المعارف، والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا بعبادة الأصنام، وأن من عبد جسماً فقد عبد صنماً، كان الجسم صغيراً أو كبيراً، قبيحاً أو جميلا، سافلا أو عالياً.. على الأرض أو على العرش، وكان نفي الجسمية ونفي لوازمها معلوماً لكافّتهم على القطع ولضرورة إعلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبالغة في التنزيه بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)وسورة الإخلاص، وقوله (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً)، وبألفاظ كثيرة لا حصر لها، مع قرائن قاطعة لا يمكن حكايتها، وعلم ذلك لا ريب فيه.
وكان ذلك كافياً في تعريفهم استحالة «يد» هي عضو مركّب من لحم وعظم، وكذا في سائر الظواهر، لأنها لا تدل إلاّ على الجسمية وعوارضها لو أطلق على جسم، وإذا أطلق علم غير الجسم على ضرورة أنه ما أريد به ظاهره بل معنى آخر مما يجوز على الله تعالى، ربما يتعين ذلك المعنى وربما لا يتعين، فهذا مما يزيل الإشكال»(16).
ومما ذكره الكوثري:
«.. والوارد في القرآن الكريم (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ).. ومن الخرق أن يظن من قوله تعالى عن القبط (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) ركوب القبط على أكتاف بني ـ إسرائيل، مع إمكان ركوب جسم على جسم، وكيف يتصور ذلك في الله تعالى المنزّه عن الجسم ولوازم الجسمية، واعتبار ذات الله فوق عباده فوقية مكانية إلحاد ليس من مدلول الآية في شيء. وكون ذاته جلّ جلاله فوق احدى السموات فوقية مكانيّة، وفوق كلّ مكان فوقية مكانية مثل ما قيل في الزيغ، وأين في القرآن ما يوهم ذلك…»(17).
وقال: «… هذا، ولم يرد لفظ الجهة في حديث مّا، بل قال أبو يعلى الحنبلي في (المعتمد في المعتقد): ولا يجوز عليه الحدّ ولا النهاية، ولا قبل ولا بعد ولا تحت ولا قدّام ولا خلف، لأنها صفات لم يرد الشرع بها، وهي صفات توجب المكان.
ولعلّه آخر مؤلفاته، بدليل أن امتحانه في الصفات كان سنة 429 قبل وفاته بنحو ثلاثين سنة. فمن أثبت له جهة فقد أثبت له أمثالا وأشباهاً، مع أنه لا مثل له ولا شبيه، قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال تعالى (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ). فلعائن الله على من يثبت له تعالى ما لم يثبت له الكتاب ولا السنّة، من الجهة ونحوها».
«… ولم يقع ذكر الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله، ولا في سنّة رسوله، ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممّن تكلّم في ذات الله وصفاته من الفرق، سوى أقحاح المجسّمة… وأتحدّى من يدّعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح، فلن يجد إلى ذلك سبيلا، فضلا عن أن يتمكن من إسناده إلى الجماهير بأسانيد صحيحة…»(18).
كما بيّن الكوثري بطلان الإستدلال بحديث الجارية، لما فيه من الإضطراب سنداً ومتناً.. وللبراهين القائمة بالتنزيه(19).
وكأنّ ابن تيميّة التفت إلى ما وقع فيه من التخبّط والتناقض، وإلى كبر الكلمة التي خرجت من فيه، فاضطرّ إلى التخلّص والتملّص بالكذب!!، فقال:
«أما قول القائل: الذي نطلب منه أن يعتقده: أن ينفي الجهة عن الله والتحيّز، فليس في كلامي إثبات لهذا اللفظ، لأنّ إطلاق هذا اللّفظ نفياً وإثباتاً بدعة، وأنا لا أقول إلاّ ما جاء به الكتاب والسنّة واتّفق عليه سلف الاُمّة»(20).
اللهم إلاّ أن يكون قد نسي أقواله التي نقلناها آنفاً عن (منهاج السنّة)!!
لكن يكون قد حكم بهذا الكلام على نفسه، فهو إذاً مبتدعٌ!!
ثمّ إن كان لا يقول إلاّ بما جاء في الكتاب والسنّة، فأين ورد فيهما لفظ «فوق سماواته» ونحوه، مما جاء في كلماته؟! وكيف ينسب ما يقول إلى «سلف الاُمّة»، ويردّ على الّذين يفسّرون «العرش» بـ «الملك» و«الإستواء» بـ «التمكّن» قائلا «أولئك ما قدروا الله حق قدره وما عرفوه حق معرفته»(21).
بل يزعم أنّ أحداً من الصّحابة لم يتأوّل شيئاً من آيات الصفات أو أحاديثها بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف(22).. مع العلم بأنّ ابن عباس ـ مثلا ـ الذي وصفه بقوله: «كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن»(23) قد أوّل «الكرسي» بـ «العلم» في قبال من فسّره بـ «العرش الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم» و«موضع القدمين» ونحو ذلك، قال الطبري: «وأمّا الذي يدلّ على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عبّاس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد ابن جبير عنه أنه قال: هو علمه، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا)على أن ذلك كذلك، فأخبر أنّه لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به ممّا في السماوات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنّهم قالوا في دعائهم (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَّحْمَةً وَعِلْماً) فأخبر تعالى ذكره أنّ علمه وسع كلّ شيء، فكذلك قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) وأصل الكرسي: العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كرّاسة…»(24).
وعن ابن عبّاس: «إنه سئل عن قوله عزّوجلّ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق) قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
إصبر عناق إنه ترباق *** قد سن قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا عن ساق
قال ابن عبّاس: هذا يوم كرب وشدّة»(25).
وقال الحافظ ابن حجر: «ولا يلزم عن كون جهتي العلوّ والسفل محالا على الله أن لا يوصف بالعلوّ، لأن وصفه بالعلوّ من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته: العالي والعلي والمتعالي، ولم يرد ضد ذلك، وإن كان قد أحاط بكلّ شيء علماً جلّ وعزّ»(26).
هذا، ثم إنه أجاب بزعمه عن قول العلاّمة «ولم يعلموا أن كلّ ما هو في جهة فوق فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة» فقال:
«فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون: إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم» ثم قال: «وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجاً إليه، فإنّ الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه محتاجاً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض وليس محتاجاً إليها، وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجاً إليها، وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليست محتاجةً إلى ذلك، والعرش فوق السماوات والأرض وليس محتاجاً إلى ذلك، فكيف يكون العلي الأعلى خالق كلّ شيء محتاجاً إلى مخلوقاته لكونه فوقها عالياً عليها»(27).
ولا يخفى ما فيه من الدلالة على الجهة، حيث أبدل لفظ «على العرش» بلفظ «فوق العرش» من قياس الخالق على المخلوق، وهو باطل… لكنّ «الجهة» بالمعنى اللغوي المعروف تستلزم أموراً مستحيلة على الله، لذلك شرع في محاولة يائسة يتنحّل المعاذير، وفي مغالطة فاشلة يتكلّف الأقاويل، فيقول: «وقد قدّمنا فيما مضى أن لفظ « الجهة» يراد به أمر موجود وأمر معدوم، فمن قال إنه فوق العالم كلّه لم يقل إنه في جهة موجودة إلاّ أن يراد بالجهة العرش، ويراد بكونه فيها أنه عليها…»(28).
لكنّ «الجهة منها أمر وجودي ومنها أمر عدمي» لم يرد عن السّلف ولا عن غيرهم، وقد قرّر هو أن «إطلاق لفظ الجهة نفياً وإثباتاً بدعة»!!
ولو سلّمنا جدلا كون «الجهة» كما ذكر، فالذي أثبته كونها أمراً وجوديّاً، فليس فهم ذلك ـ عنه وعن الكرامية ـ افتراءً… وهل يلزم من هذا إلاّ التجسيم والتحيّز؟
ثم إنّ الإستدلال الذي ذكره العلاّمة موجود في كلمات بعض الأئمة المشاهير من أهل السنة، فقد قال الفخر الرّازي ما نصّه:
«البرهان الثاني: في بيان أنّه يمتنع أن يكون مختصاً بالحيّز والجهة، أنه لو كان مختصّاً بالحيز والجهة لكان محتاجاً في وجوده إلى ذلك الحيّز وتلك الجهة، وهذا محال، فكونه في الحيّز والجهة محال.
بيان الملازمة: أن الحيّز والجهة أمر موجود، والدليل عليه وجوه: (الأول) هو أن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للأحياز التحتانية، بدليل أنهم قالوا: يجب أن يكون الله تعالى مختصاً بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز، يعني التحت واليمين واليسار، ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيّات، لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات، وإذا ثبت أن هذه الأحياز مختلفة في الماهيّة، وجب كونها أموراً موجودة، لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك.
(الثّاني) هو أن الجهات مختلفة بحسب الإشارات، فإن جهة الفوق متميّزة عن جهة التحت في الإشارة، والعدم المحض والنفي الصرف يمتنع تمييز بعضه عن بعض في الإشارة الحسيّة.
(الثالث) أن الجوهر إذا انتقل من حيّز إلى حيّز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب، والمتنقل عنه مغاير للمنتقل إليه.
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الحيّز والجهة أمر موجود.
ثم إن المسمى بالحيّز والجهة أمر مستغن في وجوده عمّا يتمكن ويستقر فيه، وأما الذي يكون مختصاً بالحيّز والجهة فإنه يكون مفتقراً إلى الحيز والجهة، فإنّ الشيء الذي يمكن حصوله في الحيّز مستحيل عقلا حصوله لا مختصّاً بالجهة، فثبت أنه تعالى لو كان مختصّاً بالحيّز والجهة لكان مفتقراً في وجوده إلى الغير. وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه:
(الأول) أن المفتقر في وجوده إلى الغير يكون بحيث يلزم من عدم ذلك
الغير عدمه، وكلّ ما كان كذلك كان ممكناً لذاته،وذلك في حق واجب الوجود
لذاته محال.
(الثاني) أن المسمى بالحيز والجهة أمر متركب من الأجزاء والأبعاض، لما بيّنا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر، ويمكن وصفه بالزائد والناقص، وكلّ ما كان كذلك كان مفتقراً إلى غيره، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فالشيء المسمّى بالحيز والجهة ممكن لذاته، فلو كان الله تعالى مفتقراً إليه لكان مفتقراً إلى الممكن، والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكناً لذاته، فالواجب ممكن لذاته وهو محال.
(الثالث) لو كان الباري تعالى أزلا وأبداً مختصّاً بالحيز والجهة، لكان الحيز والجهة موجودين في الأزل، فيلزم إثبات قديم غير الله تعالى، وذلك محال بإجماع المسلمين.
فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات، فيلزم امتناع كونه تعالى في الحيز والجهة…»(29).
وقد ساق الرازي أدلّة كثيرة عقلية وشرعية على استحالة التحيز والجهة على الله تعالى… وردّ على شبهات الكرامية الذين سبقوا ابن تيمية… وقد اقتبس ابن تيمية من آرائهم وشبهاتهم الكثير جداً، ونسبها مؤيّدوه إليه ثم أضفوا عليه صفة الجامع للمعقول والمنقول.
ويقول القرطبي في قوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ): «أي عقاب ربّهم وعذابه، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء، وقيل: المعنى: يخافون قدرة ربّهم التي هي فوق قدرتهم، ففي الكلام حذف. وقيل: معنى (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ)يعني الملائكة يخافون ربهم، وهي من فوق ما في الأرض من دابّة ومع ذلك يخافون، فلأن يخاف من دونهم أولى. دليل هذا القول قوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) يعني الملائكة»(30).
وقال تقي الدين السبكي في الردّ على ابن القيم في نونيّته، وسبّه طوائف العلماء بأنهم ملاحدة وزنادقة، وأنهم أتباع فرعون وهامان وجنكزخان:
«.. وهو يزعم بكذبه أنه متمسك بالقرآن. وأين قال الله في القرآن إنه فوق السماء؟ وأين قال إنه بائن من خلقه؟ وأين قال إنه فوق العرش بهذا اللفظ؟ وأين قال إن القدمين فوق الكرسي؟ وأين قال إنه يسمع خلقه ويراهم من فوق؟
وأين قال إن محمّداً قاعد معه على العرش؟… إلى بقية ما ذكره جميعه. والمتّبع للقرآن لا يغيّره ولا يغير لفظه.. بل يتمسك به من غير زيادة ولا نقصان، وكذا الأحاديث الصحيحة يقف عند ألفاظها ولا يزيد في معناها ولا ينقص.
وهكذا أكثر ما ذكره لم يجىء لفظه في قرآن ولا سنّة، بل هو زيادة من عنده قد كذب فيها على الله وعلى رسوله وفهمها على خلاف الحق، ونسب إلى علماء المسلمين البرئاء من السوء كلّ قبيح، وجعل ذلك طريقاً للخروج من الدين والإنسلاخ من الإيمان وانتهاك الحرام وعدم اعتقاد شيء.
فهل وصلت الزنادقة والملاحدة والطاعنون في الشريعة إلى أكثر من هذا؟
بل ولا عشر هذا! وإيهامه الجّهال أنه هو المتمسك بالقرآن والسنة لينفق عندهم كلامه ويخفي عنهم سقامه»(31).
هذا، وألّف الشيخ أحمد بن يحيى الكلابي الحلبي المعروف بابن جهبل المتوفى سنة: 733 رسالةً في نفي الجهة ردّاً على ابن تيمية، أوردها تاج الدين السبكي في (الطبقات) بترجمته(32) كما ترجم له في الدرر الكامنة 1/350، وطبقات الشافعية للأسنوي 1/390، ومرآة الجنان 4/288، والبداية والنهاية 14/163 وغيرها من المصادر.
(1) منهاج السنة 2/648ـ649.
(2) منهاج السنة 2/642ـ645.
(3) الرسالة التدمرية: 43.
(4) الفتاوى الكبرى 5/28.
(5) الفتاوى الكبرى 5/30.
(6) الردّ على النونية: 87.
(7) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 2/173.
(8) كشف الظنون 2/1438.
(9) شرح العقيدة النونية: 533.
(10) الفتاوى الكبرى 5/20ـ22.
(11) الفتاوى الكبرى 5/23.
(12) الرسالة الحموية الكبرى: 156.
(13) إلجام العوام: 9.
(14) أساس التقديس: 188ـ189.
(15) الرسالة الحموية: 97.
(16) الجام العوام ـ الباب الثالث في فصول متفرقة وأبواب نافعة في هذا الفن: 49ـ54.
(17) الرد على النونية: 39.
(18) الردّ على النونيّة: 101 و 102.
(19) المصدر: 94ـ96.
(20) الفتاوى الكبرى 5/6.
(21) التفسير الكبير 1/270.
(22) مقدمة في اصول التفسير: 51.
(23) منهاج السنة 4/26.
(24) تفسير الطبري 3/16 ـ 17، سورة البقرة الآية 255، الحديث 4524.
(25) المستدرك على الصحيحين ـ كتاب التفسير، تفسير سورة ن والقلم 2/542 وصحّحه ووافقه الذهبي.
(26) فتح الباري 6/102، كتاب الجهاد، باب التكبير إذا علا شرفاً.
(27) منهاج السنة 2/646.
(28) منهاج السنة 2/648.
(29) أساس التقديس ـ القسم الأول، الفصل الرابع في اقامة البراهين… 44 ـ 46.
(30) الجامع لأحكام القرآن ـ سورة النحل، الآية 50 ـ 10/113.
(31) الرد على نونيّة ابن القيم: 55.
(32) طبقات الشافعية الكبرى الترجمة 1302، أحمد بن يحيى بن إسماعيل 9/35.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *