الأقوال في المسألة

1 ـ عدم جريان الترتب مطلقاً.
2 ـ الجريان مطلقاً.
3 ـ التفصيل بما إذا كان اعتبار القدرة في الخطاب بحكم العقل كما عليه المحقق الثاني فلا يجري، وأمّا بناءً على اعتبارها باقتضاء الخطاب كما عليه الميرزا النائيني فيجري.
ولابدّ من النظر في أصل تحقّق التزاحم في هذه الصّورة، فالميرزا على أنّ التزاحم موجود بين إطلاق الأمر بالموسّع وأصل الأمر بالمضيّق ـ بخلاف المضيّقين فهو بين أصل دليل كلٍّ من الواجبين ـ ولكنّ هذا إنما يتم على مسلكه، أمّا على مسلك المحقق الثاني، حيث اعتبرت القدرة في جواز التكليف بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز، فلا تزاحم أصلاً، إذ يكفي في صحّة التكليف عند العقل تمكّن المكلّف على فردمّا من أفراد الطبيعة، وعلى هذا، فإن الفرد المزاحم بالمضيّق غير مقدور، أمّا غيره من الأفراد فمقدور، وهذه القدرة تكفي لصحّة الخطاب المتعلّق بالطبيعة، فلا موضوع للترتب، لكونه فرع التزاحم… ونتيجة ذلك على مسلك المحقق الثاني اختصاص الترتب بالمضيّقين.
وأمّا على مبنى الميرزا، فإنّ مقتضى نفس الخطاب توجّه التكليف إلى الفرد المقدور من الطبيعة، لأنّ حقيقة التكليف هي البعث، والبعث يقتضي الانبعاث، وهو لا يتحقق إلاّ بالنسبة إلى الفرد المقدور، فلا محالة يتقيّد المأمور به بذلك، ويخرج غير المقدور عن دائرة اطلاق المأمور به، ويتوقف شموله له على جواز الترتب، فإن جوّزناه كان داخلاً في الإطلاق عند عصيان الأمر بالأهم، وإلاّ كان خارجاً عنه. يعني: إن شمول الإطلاق للفرد المزاحم غير ممكن، لكونه ممتنعاً شرعاً بسبب مزاحمة الأمر بالمضيّق له، فينصرف الإطلاق عنه، فلو أُريد جعله مأموراً به فلا مناص من الالتزام بالترتب، بأن يتقيّد الاطلاق بالعصيان كما لو قال: أزل النجاسة عن المسجد فإن عصيت تجب عليك الصّلاة.
كلام المحاضرات
وجاء في المحاضرات ـ بعد الإيراد على الميرزا والمحقق الثاني، بأن القدرة غير مأخوذة في متعلّق التكليف لا من جهة اقتضاء الخطاب ولا من جهة حكم العقل، بل هي معتبرة في ظرف الامتثال والطاعة ـ إن جريان الترتب في المقام مبني على مسلك الميرزا من أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق، وبما أنّ تقييد المهم في المقام بخصوص الفرد المزاحم محال، لكون هذا الفرد ممتنعاً شرعاً، والممتنع الشرعي كالممتنع العقلي، فالإطلاق أيضاً محال، لكون النسبة بينهما نسبة العدم والملكة.
ثم أورد عليه: بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضادّ، فلا يستلزم استحالة أحدهما ـ في مورد ـ استحالة الآخر ولمّا كان التقييد بالفرد المزاحم غير معقول، والإهمال كذلك، كان الإطلاق ضروريّاً، فيمكن الإتيان بالفرد بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة.
( قال ) فجريان الترتب هنا مرتكز على أحد أمرين: الأوّل: دعوى اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة في المتعلّق، وأنه يوجب تقييده بالحصّة المقدورة. والثاني: دعوى أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق. لكنّ الدعويين فاسدتان كما تقدّم.
فالصحيح: أن يقال بخروج المسألة عن كبرى التزاحم، لتمكّن المكلّف فيها من الجمع بين التكليفين في مقام الامتثال(1).
قال الأُستاذ
أمّا ما ذكره من النسبة بين الإطلاق والتقييد فتام، إذ الصحيح كون الإطلاق رفض القيود لا جمعها، فبناءً عليه وبالنظر إلى أنّ الحكم يستحيل أن يتجاوز عن متعلّقه، يثبت وجوب الإطلاق، ومجئ الحكم على طبيعي الصّلاة لا على أفرادها، فليس الواجب هذا الفرد أو ذاك، بل الفرد مصداق للواجب… فما جاء في المحاضرات متينٌ، إلاّ أنّ النظر في إيراده على الميرزا، وذلك:
أوّلاً: إن الذي استند إليه الميرزا لاستحالة الإطلاق، ليس كون النسبة بينه وبين التقييد هو العدم والملكة، كما لا يخفى على من راجع ( أجود التقريرات ) و( فوائد الأُصول )(2)، بل مستنده هو القصور الذاتي للخطاب، ولذا جوّز الاطلاق على مسلك المحقق الثاني، فلو كان وجه عدم جواز الإطلاق استحالة تقييد التكليف بالفرد المزاحم، لما تعقّل الميرزا الإطلاق على ذاك المسلك، لأن استحالة تقييده واضحة على كلا المسلكين.
وثانياً: لقد ذكر الميرزا في وجه نظره: إن البعث إنما يكون نحو الفرد المقدور فالإطلاق محال، ولذا يقع التزاحم هنا بين إطلاق الواجب الموسّع وأصل وجوب الواجب المضيّق، أمّا على مبنى المحقق الثاني فلا تزاحم.
وإذا كان الميرزا يعبّر بالتزاحم، فلابدّ وأن يكون وقوعه هنا معقولاً، أمّا لو كان الاطلاق مستحيلاً ـ لكونه عدم ملكة ـ فكيف يصح التعبير بالتزاحم ؟
فظهر: أن كلامه في المقام مستند إلى الضيق الذاتي للخطاب، وليس مستنداً إلى تقابل العدم والملكة بين الاطلاق والتقييد… فالإشكال عليه من هذه الناحية غير وارد.
بل الإشكال الوارد على الميرزا: أمّا من ناحية المبنى، فالصحيح أن اعتبار القدرة في التكليف هو بحكم العقل وفاقاً للمحقق الثاني، لأنّ التكليف ليس هو البعث ـ كما ذكر الميرزا ـ بل هو جعل الشيء في الذمّة ـ وفاقاً للسيد الخوئي ـ كما هو ظاهر الأدلّة اللفظيّة من قبيل ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ… ) ونحوه، وهو المرتكز عند العرف، والبعث والانبعاث من آثار جعله في الذمّة….
وأمّا من ناحية البناء بعد فرض صحّة المبنى: فقد تقرّر أن متعلّق التكليف هو الطبيعة، والأفراد خارجة، فلو كان اعتبار القدرة بنفس الخطاب وكان حقيقة التكليف هو البعث، فلابدّ من إمكان الانبعاث نحو المتعلّق، ومن المعلوم أن القدرة على المتعلّق ـ وهو الطبيعة ـ تحصل بالقدرة على فرد مّا من أفرادها، فما أمكن الانبعاث نحوه هو الفرد، لكنّ الفرد غير متعلّق للتكليف، وما تعلّق به التكليف هو الطبيعة، وهي ملغىً عنها الخصوصيات الفردية لا يمكن الانبعاث نحوها، وإذا كان الامتثال يحصل بفرد مّا من أفرادها فلا يتحقق التزاحم، فلا مورد للترتب.

(1) محاضرات في أُصول الفقه 2 / 491 ـ 492.
(2) أجود التقريرات 2 / 97 فوائد الأُصول (1 ـ 2) 373 ـ 374 ط جامعة المدرسين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *