حكم الوضوء بعد عصيان الأمر بصرف الماء في رفع العطش

فعن الميرزا الشيرازي ـ القائل بالترتّب ـ الفتوى ببطلان الوضوء إنْ توضّأ بالماء بعد عصيان الأمر بصرفه في رفع العطش، ونسب البطلان كذلك إلى الشيخ، مع أنه غير قائل بالترتب. قال الميرزا: وأمّا ذهاب السيد المحقق الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه إلى الصحة في مفروض الكلام، فهو ناشئ من الغفلة عن حقيقة الأمر.
والحاصل: إن المسألة خلافيّة، ولابدّ لتحقيق الحال فيها من ذكر مقدّمات.
الأُولى: تارةً: تؤخذ القدرة في لسان الدليل كما في دليل الحج والوضوء، وأُخرى: لا تؤخذ كما في دليل الصّلاة مثلاً، فإن أُخذت، كان مقتضى التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات دخل القدرة في الملاك والغرض، وإن لم تؤخذ فمقتضى ذلك قيام الغرض بنفس ذات المتعلّق.
الثانية: إنه بمجرّد حصول القدرة العقليّة بالتمكن من الإتيان بالمادّة كالصّلاة، يكون المتعلّق واجباً فعليّاً، إذ الحاكم هو العقل، وهو يرى كفاية التمكّن من الشيء في صحّة طلبه، وحينئذ، فلا يبقى موضوع للواجب الآخر الذي أخذ الشارع القدرة في لسان الدليل عليه… لأن المرجع في القدرة الشرعيّة هو العرف ـ لكون الخطابات الشرعية ملقاةً إليه ـ ومع فعليّة الواجب الآخر ينتفي القدرة العرفيّة العقلائية.
الثالثة: أخذ القدرة في الواجب تارة: يكون بالمطابقة مثل آية الحج، وأُخرى: بالالتزام مثل آية التيمّم، ولمّا كان التيمم في عرض الوضوء، إذ المكلّف إمّا يكون متيمّماً أو متوضّأً، فإنه بأخذ العجز عن الماء في التيمّم يثبت بالإلتزام أخذ القدرة في الوضوء… وهذه القدرة شرعيّة لا تكوينيّة، لسقوط الوضوء عن المريض مع قدرته تكويناً عليه.
الرابعة: إن تصحيح العبادة بالأمر الترتّبي موقوف على أن يكون الأمر ذا ملاك، لتبعيّة الأحكام الشرعيّة للملاكات عند العدليّة، فلولا الملاك فلا أمر. أمّا المنكرون للترتّب فلهم تصحيحها بالإتيان بها بقصد الملاك، كما عليه صاحب الكفاية قدّس سرّه.
وإذا عرفت هذه المقدّمات، ظهر الدليل على القول ببطلان الوضوء بكلّ وضوح، وذلك:
لأنّ وجوب صرف الماء في رفع العطش عقلي، وشرط وجوبه هو القدرة التكوينيّة، بخلاف وجوب الوضوء، فالقدرة المأخوذة على الماء فيه شرعيّة، وإذا صرف في رفع العطش انتفت القدرة المعتبرة في الوضوء وتبدّل الحكم إلى التيمّم، لأنه بمجرّد صرفه في رفع العطش يكون الوضوء بلا ملاك لانتفاء شرطه وهو القدرة الشرعيّة، وإذا انتفى الملاك انتفى الأمر، وبذلك ينتفي الترتّب.
فظهر أنّ وجه فتوى الميرزا القائل بالترتب، هو عدم الأمر الترتّبي، لعدم الملاك، والشيخ يقول بالبطلان، مع إنكار الترتب، لعدم الملاك حتى يصحّح بقصده.
ولا يبقى وجه للقول بصحة هذا الوضوء، لأنّ طريق تصحيحه إمّا الترتب وإمّا قصد الملاك، وقد علم أن لا ملاك فيقصد أو يثبت الأمر الترتبي تبعاً له، وقد نسب الميرزا هذا القول إلى السيّد في ( العروة )، وكلامه فيها ـ في السبب السادس من أسباب التيمّم ـ واضحٌ في البطلان لا الصحّة، إذ قال: لو دار الأمر بين الوضوء وبين واجب أهمّ، يقدّم صرف الماء في الأهم، لأنه لا بدل له والوضوء له بدل(1). وفي حاشيته على نجاة العباد وافق الماتن في القول بالبطلان.
هذا، وذهب السيّدان الحكيم والخوئي إلى الصحّة من باب الترتّب، في مثال دوران الأمر بين رفع العطش والوضوء مع عدم كفاية الماء إلاّ لواحد منهما.
قال في ( المحاضرات ) ما ملخّصه بلفظه تقريباً:
إنه لا مانع من الترتّب إلاّ توهّم أنّه لا ملاك للوضوء، فلا يمكن تعلّق الأمر به على نحو الترتّب، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاك، لكنه يندفع: بأن القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتّب، لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم، إذ لا يمكن إحرازه فيه إلاّ بتعلّق الأمر به، فلو توقف تعلّق الأمر به على إحرازه لدار، سواء كان الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً أو شرعاً، لأنّ ملاك الترتّب مشترك بين التقديرين، فإذا لم يكن الأمر بالأهمّ مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً ولا شرعاً إذا كان في طوله، فلا مانع من الالتزام بتعلّق الأمر به على نحو الترتب ولو كانت القدرة المأخوذة فيه شرعيّة، وعليه، فإذا لم يصرف المكلّف الماء في الواجب الأهم وعصى الأمر به، فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء، لكونه حينئذ واجداً للماء ومتمكّناً من صرفه فيه عقلاً وشرعاً.
وقد تحصّل من ذلك: إن دعوى عدم جريان الترتب فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المهم شرعاً، تبتني على الإلتزام بأمرين:
الأوّل: دعوى أن الترتّب يتوقّف على أن يكون الواجب المهم واجداً للملاك مطلقاً حتى في حال المزاحمة، وإحرازه إنما يكون إذا كانت القدرة المعتبرة عقليّة، وأما إذا كانت شرعيّةً، فبانتفاء القدرة ـ كما في المثال ـ ينتفي الملاك، ومعه لا يجري الترتب.
والثاني: دعوى أن الأمر بالأهمّ مانع عن الأمر بالمهم ومعجّز عنه شرعاً، حتى في حال عصيانه وعدم الإتيان بمتعلّقه.
ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين.
أمّا الأُولى، فلما سبق من أن الترتّب لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم، فإن إحرازه غير ممكن مع سقوط الأمر حتى فيما إذا كانت القدرة عقليّة فضلاً عن كونها شرعيّة، فلو كان الترتّب متوقفاً على إحراز الملاك في المهم لم يمكن الإلتزام به على كلا التقديرين.
وأمّا الثانية، فقد عرفت عدم التنافي بين الأمرين، إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم(2).
جواب الأُستاذ
وقد أجاب الأُستاذ عن ذلك: بأنه كلام غير مناسب لشأنه، لأنّ الميرزا إنما يستكشف الملاك عن طريق إطلاق المادّة لا عن طريق الأمر كما عليه المستشكل، فالميرزا يقول: بأنه إذا تعلّق الأمر بشيء ولم تؤخذ القدرة فيه في لسان الدليل الشّرعي، فإنّ نفس إطلاق الواجب يكشف عن قيام الملاك بذات المادّة… فالإشكال أجنبي عن مسلك الميرزا. هذا أوّلاً.
وثانياً: لو سلّمنا أنّ الترتّب لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم ـ كما قال ـ فإنّ الواقع في المسألة هو إحراز عدم الملاك، فما ذكره خلط بين عدم إحراز الملاك وإحراز عدم الملاك، وذلك لأن القدرة المأخوذة في الواجب قيد للواجب، وكلّ ما يكون قيداً له فهو قيد للملاك، لاستحالة تقيّد الواجب من دون تقيّد الملاك، وعليه، فإنه يستحيل أن تقيّد الصّلاة بالطهارة مع عدم تقيّد المصلحة المترتبة عليها والغرض منها بالطهارة، والمفروض اعتبار القدرة الشرعيّة على الطهارة، فإذا انتفت هذه القدرة عليها حصل القطع بعدم الملاك، والقطع بعدمه في المهم يبطل الترتب… وقد اعترف المستشكل في مباحث الضدّ بأنه متى أُخذت القدرة في المتعلّق وكانت قيداً للواجب، فإنّه ينتفي الملاك بانتفاء هذا القيد… ومع قطعاً يستحيل جريان الترتب.
وثالثاً: كيف الجمع بين قوله هنا في المحاضرات بعدم لزوم إحراز الملاك وأنّ عدمه لا ينافي الترتّب بين الواجبين، وقوله في كتاب الحج بشرح ( العروة )(3)« لعدم جريان الترتب في أمثال المقام » وهذا نصّ عبارته:
« الظاهر عدم وجوب متعلّق النذر حتى في مثل الفرض، لعدم جريان الترتب في أمثال المقام، لأن الترتب إنما يجري في الواجبين اللذين يشتمل كلّ منهما على ملاك ملزم، غاية الأمر لا يتمكن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الإمتثال »(4) ؟
فالحق مع الميرزا، لأنّه قد أُخذ في لسان أدلّة التيمّم عدم التمكّن من استعمال الماء، فكان وجوب التيمّم والتكليف به رافعاً لموضوع حكم الوضوء، فلو توضّأ ـ والحال هذه ـ بطل.

(1) العروة الوثقى 2 / 178 ـ 179 ط جامعة المدرسين.
(2) محاضرات في أُصول الفقه 2 / 394 ـ 395.
(3) العروة الوثقى 4 / 393 المسألة 32 شرائط وجوب الحج: إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين عليه السلام في كلّ عرفة ثم حصلت، لم يجب عليه الحج…
(4) شرح العروة 26 / 119 كتاب الحج، مسألة تزاحم الحج والنذر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *