2 ـ في المسألة الفقهيّة

المقام الثاني ( مقتضى الأصل في المسألة الفقهيّة )
وأمّا في المسألة الفقهيّة، فالأصل المطروح هو الإستصحاب والبراءة بقسميها، كما أنّ الإستصحاب يطرح في عدم الجعل وهو الوجوب، وعدم المجعول، أي عدم الوجوب، فهي أربعة أُصول في هذا المقام.
قال صاحب الكفاية: بجريان الإستصحاب في الوجوب، وقال جماعة: بعدم جريانه، وعليه في المحاضرات… وتحقيق ذلك في جهتين:
الجهة الأُولى: هل للإستصحاب مقتض في هذا المقام ؟
قال جماعة: بعدم وجود المقتضي للإستصحاب بالنسبة إلى عدم الوجوب خلافاً للخراساني صاحب الكفاية، لأنّ الوجوب حادث، فأركان الاستصحاب فيه تامّة. أمّا وجه عدم الجريان فهو: أنّ وجوب المقدّمة لا يقبل الجعل، فلا معنى لاستصحاب العدم فيه، والدليل على عدم قبول وجوب المقدّمة للجعل هو: أنّ وجوبها من لوازم وجوب ذيها كما تقدّم، واللّوازم غير قابلة للجعل، لا الجعل البسيط ـ وهو مفاد كان التامّة ـ ولا الجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة.
وقد أجاب المحقّق الخراساني: بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذيها، وهو آب عن الجعل البسيط والتأليفي كما ذكر، لكنّه لا يأبى عن الجعل التبعي، إذ اللزوم في لوازم الماهيّة هو بمعنى التبعيّة، لأنّ جعل الماهيّة يكفي لانتزاع لوازمها منها، فيكون اللاّزم مجعولاً بتبع جعل الماهيّة… وإذا كان قابلاً للجعل كان مجرىً للإستصحاب(1).
قال الأُستاذ
إن أراد من الجعل التبعي أنّ وجوب المقدّمة مجعول بجعل مستقل غير أنّه لا ينفك عن وجوب ذيها، فهو مجعولٌ بالجعل البسيط، فهذا ينافي نفيه للجعل البسيط.
وإن أراد أنّ الجعل يتعلّق بوجوب المقدّمة بالعرض، كما أنّ الزوجيّة مجعولة بجعل الأربعة، والفوقيّة مجعولة بجعل الفوق، ففيه: إنّه ليس كذلك، لأنّ هناك إرادة متعلّقة بالمقدّمة وإرادة أُخرى متعلّقة بذي المقدّمة، فتلك غيريّة وهذه نفسيّة، ولكلٍّ جعل على حده، وليس المقدّمة مجعولةً بجعل عرضي.
فالحق: إنّ المقدّمة قابلة لتعلّق الجعل بالجعل البسيط، فلجريان الأصل فيها مجال، بالبيان الذي ذكرناه.
وقال آخرون ـ منهم السيّد البروجردي(2) ـ بعدم جريان الأصل، من جهة أنّ وجوب المقدّمة في حال وجوب ذيها قهري ذاتي، وما كان كذلك فلا يقبل الجعل، وما لا يقبله فلا يجري فيه الأصل.
قال الأُستاذ
ما المراد من أنّ « وجوب المقدّمة ذاتي وقهري بالنسبة إلى ذي المقدّمة » ؟
إن كان المراد أنّه إذا تحقّق الوجوب لذي المقدّمة، ثبت للمقدّمة بصورة قهريّة، فإنّ هذا يتم في الإرادة دون الوجوب، إذ الإرادة إذا تحقّقت بالنسبة إلى ذي المقدّمة تتحقّق قهراً بالنسبة إلى مقدّمته، لكنّ الإرادة من الصفات، والوجوب من الأفعال، فتلك الحالة بالنسبة إلى الإرادة متصوّرة وواقعة، أمّا الوجوب فيحتاج إلى موجب، وهو فعل اختياري للمولى، يمكن أن يجعله وأن لا يجعله، بخلاف الإرادة.
وأشكل على الاستصحاب هنا ـ واعتمده في المحاضرات(3) ـ بأنّه لا أثر له، بعد استقلال العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة، فلا معنى لجريانه.
وأجاب المحقّق الإصفهاني: بأنّ اعتبار الأثر للإستصحاب إنّما هو حيث لا يكون المستصحب نفسه حكماً مجعولاً شرعيّاً، وإلاّ فلا حاجة إلى اشتراط الأثر.
قال الأُستاذ: لكنّ أثر جعل الحكم هو تحريك العبد، فيجعل الوجوب مثلاً لأن يكون داعياً له للفعل، ومع وجود الداعي ـ وهو اللاّبدية العقليّة ـ لا يبقى للوجوب داعويّة للعبد من أجل التعبّد، فإنْ كان للوجوب أثر آخر فهو وإلاّ فلا حاجة إليه.
هذا تمام الكلام في الإستصحاب.
وأمّا البراءة:
فإنّ العقليّة غير جارية، لأنّ مجراها هي الشبهات الحكميّة للتكاليف الإلزاميّة، وعلى القول بوجوب المقدّمة، فإنّ تركها لا يستتبع استحقاق العقاب، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وأمّا الشرعيّة، فإن قلنا: بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم الماهيّة، وهي غير قابلة للجعل، فلا يجري حديث الرفع في المقدّمة، إذ ما لا يقبل الجعل لا يقبل الرفع.
وإن قلنا: بقابليّته للجعل تبعاً ـ كما عليه المحقّق الخراساني ـ فيقبل الرفع، إذ لا فرق بين الاستقلالية والتبعية هنا.
وعلى المختار من كون وجوب المقدّمة قابلاً للجعل البسيط الاستقلالي، فالبراءة جارية.
هذا، ولا تجري البراءة الشرعية ـ على القول بكون وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذيها ـ من جهة أُخرى أيضاً، وهي: أنّ لازم هذا القول أن يكون وضع وجوب المقدّمة بوضع وجوب ذي المقدّمة، وما كان وضعه بوضع غيره فلا يقبل الرفع إلاّ برفع ذلك الغير، ولذا قالوا بأن حديث الرفع لا يرفع الجزئيّة ـ مثلاً ـ لكونها مجعولةً بجعل الأمر المتعلّق بالمركّب الذي هو منشأ انتزاعها، إذ ليس لها وضع استقلالي، فلا رفع كذلك.
لكنّ التحقيق أنّه ليس وجوب المقدّمة من لوازم ماهيّة وجوب ذيها، بل له وجود مستقل.
وأورد في المحاضرات: بأنّه لا أثر لأصالة البراءة الشرعيّة بعد حكم العقل بلابدّية الإتيان بالمقدّمة، لتوقف الواجب النفسي عليها.
فأفاد الأُستاذ: بأنّ هذا الإشكال يبتني على عدم ترتّب ثمرة من الثمرات المذكورة سابقاً على الإتيان بالمقدّمة، لكنّ تصوير الثمرة ممكن، فمثلاً: بناءً على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب الشرعي، فإنّه إنْ جرت البراءة الشرعيّة عن وجوب المقدّمة سقطت عن الوجوب، ولا يبقى إشكال في جواز أخذ الأُجرة عليها….
هذا تمام الكلام في مرحلة المقتضي لجريان الأصل في المقام.
وأمّا المانع، فقد ذكر في الكفاية: إنّ استصحاب عدم الوجوب الشرعي للمقدّمة يستلزم التفكيك بين المتلازمين في صورة الشك، قال رحمه اللّه: « نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في مرتبة الفعلية لما صح التمسّك بالأصل »(4)هكذا في نسخة. وفي أُخرى « صحّ التمسّك » وعن بعض تلامذته أنّ « لما صحّ » كانت في الدّورة السابقة، و« صحّ » في الدورة اللاّحقة.
وحاصل الكلام: وجود المانع عن جريان الأصل ـ بعد تماميّة المقتضي له ـ وهو لزوم التفكيك بين الوجوبين.
فأجاب رحمه اللّه عن الإشكال: أمّا بناءً على كلمة « لما صح » بأنّ الإشكال إنّما يرد لو كانت الملازمة بين الوجوبين ظاهراً وواقعاً، أمّا لو قلنا بأنّها في الواقع فقط، دون مقام جريان الأصل، فلا ملازمة بين الوجوبين، إذ للشارع أن يتصرّف في مرتبة الظاهر ويرخّص بالنسبة إلى المقدّمة بجريان أصالة عدم وجوبها فيها.
وأمّا بناءً على كلمة « صحّ » فتقريب الإشكال هو: إنّ إجراء البراءة عن وجوب المقدّمة يعني الشك في الملازمة ووقوع التفكيك بين المتلازمين احتمالاً، وهذا محال كالتفكيك بينهما قطعاً.
فأجاب رحمه اللّه ـ فيما حكاه المحقّق القوچاني ـ بأنّه في كلّ مورد يوجد دليلٌ يستلزم الأخذ به محالاً من المحالات، فإنّ ظهور ذلك الدليل يكون حجةً على أنْ لا موضوع لذلك اللازم المحال… ويؤخذ بالدليل… وهذا هو البيان الذي مشوا عليه في جواب شبهة ابن قبة في حجيّة خبر الواحد باحتمال لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال من العمل بخبر الواحد، واحتمال لزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين من جهة تعذّر الجمع بين الحكمين الظاهري والواقعي.
وقد استفاد المحقّق الخراساني من هذا المطلب ليعطي الجواب عن إشكال لزوم التفكيك في المقام، فهو يقول بأنّ عمومات أدلّة الإستصحاب وأدلّة البراءة الشرعيّة حجّة على عدم الملازمة، فلا موضوع للاّزم المحال وهو التفكيك بين المتلازمين….
والحاصل: إنّ التعبّد بالأدلّة يثبت عدم وجود الملازمة، فصحّ جريان الأصل وتمّ عدم وجوب المقدّمة.
هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل في وجوب المقدّمة.
أدلّة الأقوال في مقدّمة الواجب
قد ذكرنا الأقوال، ونتعرّض هنا لأدلّتها:

(1) كفاية الأُصول: 124 ـ 125.
(2) نهاية الأُصول: 181.
(3) محاضراتٌ في أُصول الفقه: 2 / 278.
(4) كفاية الأُصول: 126.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *