الأصل فيه هو الشيخ الأعظم و كلام الأعلام حوله

الأصل فيه هو الشيخ الأعظم
وهذا الذي ذكره المحقّق الخراساني في دفع الاشكال متّخذ من الشيخ قدّس اللّه روحه، والأفضل هو الرجوع إلى كلامه والتعرّض لما قاله الأعلام في نقضه أو إبرامه.
فلقد طرح الشيخ في مسألة الطهارات ثلاث إشكالات، ذكر اثنين منها في الأُصول(1) والثالث في مبحث نيّة الوضوء من ( كتاب الطهارة )(2) فيقول الشيخ في بيان الاشكال الأوّل:
إنّ مقتضى القاعدة العقليّة هو أنّ الأمر الغيري من شئون الأمر النفسي وليس في قباله، وكذلك إطاعة الأمر الغيري، فهو من شئون إطاعة الأمر النفسي، فالأمر الغيري تابع للأمر النفسي في ذاته وفي ترتّب الأثر عليه قرباً وبعداً وفي إطاعته ومعصيته. لكنّ هذا مخالف للأخبار المستفيضة في الطهارات والإجماع القائم على ترتّب الثواب على نفس الطهارة، فإنّ الثواب يترتّب على الوضوء للصّلاة، لا للصّلاة عن وضوء… فكان الإشكال الأوّل: المخالفة بين القاعدة العقليّة ومقتضى النصوص والإجماعات.
فأجاب الشيخ:
بأنّ الثواب في الطهارات مترتّب على ذواتها، لكونها محبوبةً بالمطلوبيّة والمحبوبيّة النفسيّة، وليس ترتّب الثواب بمناط الأمر الغيري ليتوجّه الإشكال، بل إنّها محبوبة بأنفسها ولها الاستحباب النفسي.
وهذا ما ذكره صاحب الكفاية.
ولكن الشيخ قدّس سره قد نصّ على أنّه جواب غير مفيد، والوجه في ذلك هو: أنّ تصوير الاستحباب النفسي للطّهارة لا يجتمع مع الوجوب الغيري الثابت لها، لأنّ الوجوب والاستحباب لا يجتمعان في المتعلّق الواحد، وإلاّ لزم اجتماع المثلين، ولو قلنا بأنّه مع الوجوب الغيري لا يبقى الإستحباب النفسي، عاد الإشكال….
إلاّ أن يوجّه: بأنّه مع الوجوب الغيري ينعدم الإستحباب النفسي بذاته، بل يزول حدّه ويندك في الوجوب، كاندكاك المرتبة الضعيفة من النور في المرتبة القويّة منه، فإنه لا ينعدم بل يندك، وذاته محفوظة… فلا مانع من أن يترتّب الأثر على المطلوبيّة النفسيّة الاستحبابيّة الموجودة هنا مندكّةً في الوجوب الغيري….
لكنّ هذا التوجيه أيضاً لا يرفع المشكلة إلاّ في الوضوء والغسل، لقيام الدليل فيهما على المطلوبيّة النفسيّة كذلك، أمّا في التيمّم فلا دليل، وإنْ حاول بعضهم الاستدلال له ببعض الأخبار، لكنّه لا يفيد.
على أنّه يرد على تصوير الاستحباب النفسي أيضاً: إنّ المستفاد من كلمات الأصحاب كفاية الإتيان بالطهارات بداعي الأمر الغيري حتّى مع الغفلة عن المطلوبيّة النفسيّة المذكورة، وهذا لا يجتمع مع عباديّتها ـ ولو بالاستحباب ـ لأنّها موقوفة على الالتفات والقصد.
ثم قال الشيخ: بأنّ الأولى هو القول بأنّ الثواب على الطهارات تفضّل من اللّه.
ثمّ أمر بالتأمّل.
وأخذ صاحب الكفاية هذا الجواب إذ قال: بأنّ الأمر يدعو إلى متعلّقه وهو « المقدّمة » وهي الطهارات بقصد القربة، فيكون الاستحباب النفسي مقصوداً بقصد الأمر الغيري. ثمّ أمر بالفهم.
والوجه في ذلك واضح، لأنّه مع الجهل والغفلة يكون القصد محالاً، ومع عدمه لا يمكن تحقّق عنوان العباديّة.
هذا كلّه بالنسبة إلى الإشكال الأوّل، وهو كيفيّة ترتّب الثواب على الأمر الغيري.
وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو أنّه إذا كان الوضوء مثلاً للتوصّل إلى الغير فوجوبه توصّلي مع أنّه عبادة يعتبر فيه قصد القربة ـ فقد ذكره الشيخ، وحاصله: إنّ الطهارات الثلاث لا يحصل الغرض منها بأيّ صورة اتّفقت، بل يعتبر فيها قصد القربة، فكيف يكون وجوبها غيريّاً والغرض منها التوصّل إلى الصّلاة مثلاً ؟
وأجاب الشيخ ـ وتبعه في الكفاية ـ بأنّ الأمر هنا إنّما تعلّق بالحصّة العباديّة من المقدّمة.
لكنّ هذا يتوقّف على حلّ المشكلة السابقة، إذ الإتيان بالمقدّمة مع الجهل والغفلة عن استحبابها النفسي لا يحصل الغرض منها وهو التوصّل إلى ذي المقدّمة، فقد اعتبر فيها قصد القربة والمفروض انتفاؤه، قاله شيخنا دام بقاه.
وأمّا الإشكال الثالث ـ الذي تعرّض له في كتاب الطهارة في كيفيّة نيّة الوضوء ـ فهو: إنّ الأمر الغيري قد تعلّق بالمقدّمة المتحقّقة خارجاً، لا بعنوان المقدّمة، فالوضوء الواقع مقدّمة للصّلاة ـ سواء قلنا بأنّ الطهارة رافعة للحدث المانع من الدخول في الصلاة أو قلنا بأنّها شرط للصّلاة ـ فهو رافع أو شرط إن أُتي به وتحقّق مع قصد القربة… فالأمر الغيري يتوقّف تحقّقه على كون متعلّقه مقدّمةً قبل أن يتوجّه إليه الأمر ويتعلّق به، وثبوت مقدّمية المتعلّق موقوفٌ على كونه مأتياً به عبادةً، لكنّ عباديّته إنّما تحصل بتعلّق الأمر الغيري به، وهذا دور.
وأورد عليه الميرزا(3): بأنّ هذا الدور لا يتوقّف على تحقّق المتعلّق والإتيان به على وجه العباديّة، بل هو حاصل في مرحلة جعل المتعلّق وتوجّه التكليف به، ففي تلك المرحلة لابدّ لإرادة الشارع جعل الأمر الغيري من متعلّق، ولابدّ من أن يكون عبادةً ـ وإلاّ لا يكون رافعاً للحدث أو شرطاً للدخول في الصّلاة ـ فجعل الأمر الغيري موقوف على عباديّة الوضوء مثلاً، وعباديّته موقوفة على جعل الأمر الغيري… فالدور حاصل، سواء وصل الأمر إلى مرحلة التحقّق خارجاً أو لا.
ثمّ أجاب عن الدور: بأنّ عباديّة الوضوء ليست من ناحية الأمر الغيري، بل من جهة استحبابه النفسي الموجود قبل تعلّق الأمر الغيري به.
فقال الأُستاذ: لكنّ الإشكال في مورد الجاهل والغافل باق على حال، فإمّا أن ترفع اليد عن عباديّة الطهارات في حقّهما، وإمّا يقال بأنّ عباديّتها جاءت من ناحية الأمر الغيري، فيعود محذور الدور.
ولكنْ لا يبعد أن يكون نظر الشيخ في تقريب الدور إلى لزومه في مرحلة العمل مضافاً إلى مرحلة الجعل، فهو يريد إضافة إشكال، وأنّ الدور لازم في المرحلتين، لا أنّه ينفي لزومه في مرحلة الجعل. بل إنّ مقتضى الدقّة هو أنّ إثبات الدور في مرحلة الامتثال وفعلية الأمر يستوجب اثباته في مرحلة الجعل، ولا عكس… وكأنّ الميرزا قد غفل عن هذه النكتة… فبيان الشيخ أمتن من بيان الميرزا، فتدبّر.
وأشكل الميرزا في الطّهارات الثلاث، بإشكال الدور، وبالنقض بالتيمّم لأنّه ليس بمستحب نفسي… وقد تقدّم ذكرهما عن الشيخ.
ثمّ أجاب الميرزا عن الإشكال ـ باستحالة القصد مع الجهل والغفلة، وأنّه إذا استحال القصد استحالت العبادية للطهارات ـ بأنّه يمكن تحقّق العباديّة فيها بوجه آخر، وهو أنّ الأمر بالمشروط ينبسط على الشرط كانبساط الأمر بالمركّب على أجزائه، وكما أنّ الإتيان بالأجزاء بقصد الأمر بالمركّب يحقّق لها العباديّة، كذلك الأمر المتوجّه إلى المشروط، فإنّه يتحقّق العباديّة للشرط، فالوضوء يؤتى به بداعويّة الأمر المتوجّه إلى الصّلاة، كما أنّ الركوع ـ مثلاً ـ يؤتى به بداعويّة الأمر بالصّلاة.
فأورد شيخنا الأُستاذ عليه: بأنّ المبنى المذكور غير مقبول ولا يحلّ المشكل، فأمّا تعلّق الأمر في المركب بالأجزاء فهو أوّل الكلام، ثمّ إنّ الفرق بين الجزء والشرط واضح تماماً، لأنّ الأجزاء داخلة تحت الأمر على المبنى، لكنّ الشروط خارجة عنه، إذ الداخل تحته فيها هو الاشتراط لا الشّرط، فليس الوضوء بمطلوب بالأمر بالصّلاة بل المطلوب به تقيّدها واشتراطها به.
وكذا سيّدنا الأُستاذ وأضاف: بأنه لو سلّم ما ذكر، فالشرط فيما نحن فيه هو الطهارة لا نفس الوضوء، وهي مسبّبة عن الوضوء، والاشكال في تصحيح عباديّة نفس الأعمال المأتي بها، وهي لا تكون متعلّقةً للأمر الضمني لأنها ليست شرطاً…(4).
فما ذكره لا يحلّ المشكلة.
وأمّا الجواب عن النقض بالتيمّم: بأنّه مستحبٌ بالاستحباب النفسي، بالنّظر إلى طائفتين من النصوص، أفادت الأولى مطلوبيّة الطّهور في جميع الأحوال، والثانية كون التيمّم أحد الطهورين، ومحصّلهما كون التيمّم مطلوباً للمولى. فقد ذكره الشيخ قدّس سرّه، إلاّ أنّه قال بعد ذلك ما حاصله: أن أحداً من الفقهاء لم يذهب إلى الإستحباب النفسي للتيمّم.
لكنّ الحق تماميّة الجواب المذكور، إذ المستفاد من الصحيحة: « الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا »(5) هو المطلوبيّة النفسيّة للطهارة، وروى الصدوق مرسلاً: « من تطهّر ثمّ آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده… »(6) وفي الخبر أيضاً: « إنّ التيمّم أحد الطهورين »(7) ومن جميع هذه الأخبار يستفاد المطلوبيّة النفسية للتيمّم، ومقتضى القاعدة هو الأخذ بظواهر هذه النصوص إلاّ أن يثبت إعراض الأصحاب عنها، لكنّها دعوى ممنوعة، بل إنّ ظواهر كلمات بعضهم في بدليّة التيمّم عن الوضوء ترتّب جميع آثار الوضوء على التيمّم.
هذا، وقد يقال: باستحباب التيمّم نفساً عن طريق الإجماع القائم على أن رافعيّة الطهارات الثلاث للحدث أو مبيحيّتها للدخول في الصّلاة متوقفة على كونها ـ أي الطهارات ـ عبادةً، وذلك: لأنّه إذا لم يكن الأمر الغيري موجباً لعباديّتها كان الإجماع المذكور دليلاً على الإستحباب النفسي لها، وإلاّ لم يتحقّق العباديّة للتيمّم.
وأشكل عليه الأُستاذ: بأنّ الإجماع على مقدميّة الطهارات للصّلاة وكونها عبادةً لا يثبت الإستحباب النفسي للتيمّم، لاحتمال استناد المجمعين إلى الروايات التي أشرنا إليها، أو لقولهم بأنّ الإتيان بالمقدّمة بداعويّة الأمر الغيري أو التوصّل إلى الصّلاة مقرّب. ومع وجود هذه الاحتمالات لا يكون هذا الإجماع كاشفاً عن رأي المعصوم أو عن دليل معتبر….
وتحصّل اندفاع الاشكال بالنظر إلى الروايات واستظهار الاستحباب النفسي منها.
وأشكل الميرزا أيضاً: بأنّ الطّهارات الثلاث ـ لكونها مقدّمةً للصّلاة ـ متّصفة بالوجوب الغيري، ومعه لا يمكن بقاء الأمر النفسي المتعلّق بها بحاله، للتضادّ بين الأحكام، وعليه، فلابدّ من الالتزام باندكاك الأمر النفسي الاستحبابي في الوجوب، وحينئذ، كيف يمكن أن يكون منشأً للعباديّة ؟
قال الأُستاذ: وهذا الإشكال أيضاً قد تعرّض له الشيخ وأجاب عنه: بأن زوال الطلب قد يكون بطروّ مفسدة، وقد يكون بطروّ مصلحة أُخرى للطلب، فإنْ كان الطارئ هو المفسدة فلا مطلوبية نفسية، وإنْ كان هو المصلحة، فإنّ حدّ المطلوبيّة يزول بعروضها وأمّا أصل المطلوبية فباق، وحينئذ، يمكن الإتيان بالطهارة بداعي أصل المطلوبيّة النفسيّة.
وقد أوضح المحقّق الإصفهاني هذا الجواب(8): بأنّ الوجوب الغيري إن كان الإرادة الشديدة فلا كلام، كأن يكون الوضوء ـ مثلاً ـ مطلوباً نفسيّاً قبل الوقت ومتعلّقاً للإرادة، ثمّ بعد الوقت تشتدّ الإرادة نفسها فيكون واجباً… لأنّ الإرادة قابلة للشدّة كما هو معلوم، نظير النور، فإنّه مع مجيء النور الشديد لا ينعدم النور الضعيف السابق عليه. وإن كان الأمر، بمعنى أنّ الوجوب الغيري أمر آخر غير الأمر الاستحبابي النفسي، فلا ريب في زوال الأمر النفسي بمجيئه، لاستحالة اجتماع المثلين، لكنّ ملاكه باق ولا مانع من التقرّب بملاك الأمر النفسي.
وقد تنظرّ فيه الاستاذ بما حاصله: أنّه ينافي مسلكه في الإرادة الغيريّة والأمر الغيري، وذلك لأنّه قد ذهب فيما سبق إلى أنّ الإرادة الغيريّة والأمر الغيري لا يقبل اللّحاظ الاستقلالي، لكونه كالمعنى الحرفي، فلا يصلح للباعثية، لأنّه غير قابل للالتفات النفسي، نعم، يتم هذا الجواب على مسلكنا من أنّ هذه الإرادة وهذا الأمر ملحوظ بالاستقلال، ويمكن تعلّق القصد به وإنْ كان في ضمن الإرادة الشديدة.
هذا تمام الكلام على إشكال التيمّم، ومشكلة انقلاب الإستحباب النفسي إلى الطلب الغيري.
أمّا الأول، فقد اندفع بإثبات استحبابه استحباباً نفسيّاً من الروايات، وأمّا الثاني، فقد اندفع بناءً على أنّ المطلوب بالطلب الغيري ملحوظ باللحاظ الاستقلالي كما اخترناه.
بقي الكلام في الإشكال: بأن الجاهل أو الغافل غير الملتفت إلى الإستحباب النفسي، إنّما يأتي بالطهارات بقصد الأمر الغيري، والمفروض أنّ الأمر الغيري توصّلي وليس بعبادي… فإنّ هذا الإشكال باق بعد ما تقدّم من سقوط جواب الميرزا بدعوى عباديّتها بنفس الطلب المتعلّق بالصّلاة، فلنرجع إلى الوجوه الأُخرى المطروحة في حلّ هذا الإشكال، فقد قال في الكفاية « وقد تفصّي عن الاشكال بوجهين آخرين… »(9) ولكنّ الأولى هو التعرّض لكلام الشيخ نقلاً عن التقريرات مباشرةً، فإليك محصّل كلامه أعلى اللّه في علوّ مقامه(10):
إنّ من المقدّمات ما ندرك توقّف ذي المقدّمة عليه، ومنها ما لا ندركه، فالأوّل كتوقف الصعود على السطح على نصب السلّم، فإنّ هذا واضح عند كلّ عاقل سواء جاء بيان فيه من الشارع أو لا، لكنّ توقّف الصّلاة على الطهارة من القسم الثاني، فإنّا لا ندرك كيفيّة توقف أفعال الصّلاة من الحركات والسكنات على الوضوء مثلاً، فلابدّ من الرجوع إلى الشارع، ومن أمره بالوضوء عند القيام إلى الصّلاة نستكشف توقّفها عليه.
ثمّ إنّ الأفعال أيضاً مختلفة، فمنها: ما يكون حسنه معلوماً، ومنها: ما لا نعلم جهة الحسن فيه، ومنها: ما يختلف بالوجوه فهو من وجه حسن ومن وجه قبيح، كالقيام مثلاً عند دخول الشخص، فقد يكون تعظيماً وإكراماً له وقد يكون إهانةً… وأمر الوضوء من هذا الحيث أيضاً مجهول، فإنّا لا ندرك أنّ الوضوء في أيّة حالة يتّصف بالحسن حتى يكون مقدّمةً للصّلاة.
وعلى الجملة، فإنّا جاهلون بالعنوان الذي به يتّصف الوضوء بالحسن والمقدميّة للصّلاة، ولكنّ الشارع لمّا أمر بالوضوء أمراً غيريّاً، كان أمره بذلك طريقاً لأنْ نأتي بالوضوء بعنوانه، وإنْ كان العنوان على حقيقته مجهولاً عندنا.
وحاصل هذا الوجه:
أوّلاً: ليس الحسن والمقدميّة للوضوء بالنسبة إلى الصّلاة حاصلاً من جهة نفس الأمر الغيري حتى يلزم الدور، بل ذلك يحصل من عنوان يكون الأمر الغيري طريقاً إليه.
وثانياً: إنّ الأمر الغيري لا يوجب القرب والثواب كما تقدّم، لكنّ العمل قد تعنون بعنوان، فكان الإتيان به مقرّباً لذلك العنوان، غاية الأمر هو مجهول، ولا ضير في ذلك.
وثالثاً: صحيح أنّ الأمر الغيري المتعلّق بالوضوء توصّلي، ولا يمكن أن يكون تعبّدياً ـ والحال أنّ الوضوء عبادة ـ لكنّ عباديّة الوضوء لم تنشأ من ناحية هذا الأمر حتى يرد الإشكال، وإنّما هي من ناحية ذلك العنوان المجهول الذي كان الأمر الغيري طريقاً إليه، فإندفع الإشكال. لكنّ عباديّة العمل منوطة بالقصد، ومع الجهل بالعنوان الموجب للعباديّة كيف يقصد ؟ فأجاب الشيخ: بكفاية قصد الأمر الغيري، لأنّه يدعو إلى الإتيان بالوضوء بذلك العنوان، فصار العنوان مقصوداً عن طريق الأمر الغيري.
هذا، ولا يخفى أنّ بهذا الوجه تنحلّ مشكلة التيمّم أيضاً ـ لأنّ الشيخ قد أشكل على استحبابه النفسي لظاهر الأخبار، بعدم ذهاب الأصحاب إلى ذلك ـ فإنّه يتم استحبابه ويكون مقدّمةً للصلاة بعنوان يكون الأمر الغيري طريقاً إليه وكاشفاً عنه.
لكن يرد على هذا الوجه:
أوّلاً: ما ذكره الشيخ نفسه من أنّ عدم دركنا لكيفيّة توقف ذي المقدّمة على المقدّمة وترتّبه عليها، غير منحصر بالطهارات الثلاث، فإنّ للصّلاة مقدّمات أُخرى أيضاً قد اعتبرها الشارع مقدّمةً لها ونحن نجهل كيفية توقّفها عليها، فلو كانت المقدميّة المأخوذة شرعاً توجب عباديّة المقدّمة ولزوم الإتيان بها بعنوان العبادة، فلابدّ من القول بذلك في تلك المقدّمات أيضاً، مع أنّ وجوب الإتيان بقصد القربة وبالوجه الحسن يختصُّ بالطهارات الثلاث فقط.
وثانياً: ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّه كما يمكن قصد ذلك العنوان ـ الموجب لحسن العمل والمجهول عندنا ـ بطريقيّة الأمر الغيري، كذلك يمكن قصده بنحو التوصيف، كأن يقصد الوضوء بوصف كونه مأموراً به، فلا يكون إتيانه بالوضوء بداعويّة الأمر وطريقيّته، وإذا أمكن قصد تلك الخصوصيّة المجهولة بالتوصيف ـ لا بمحركيّة الأمر الغيري ـ أمكن أنْ يكون الداعي شيئاً آخر غير أخذ الشارع، فمن أين تحصل العباديّة ؟
هذا، وذكر المحقّق الخراساني وجهاً آخر وهو: إنّه لا ريب في عباديّة نفس الصّلاة، وأنّها يؤتى بها بالوجه القربي ـ سواء بالأمر الأوّل أو بالأمر الثاني ـ وكما أنّ الأمر قد اقتضى الإتيان بذي المقدّمة ـ أي الصّلاة ـ بوجه قربي، كذلك يقتضي أن يؤتى بمقدّماته على الوجه المزبور. إذن، لم يكن الإتيان بالطّهارات بالأمر الغيري، ليرد الإشكال بأنّه لا يوجب العباديّة، بل إنّه باقتضاء الأمر بالصّلاة نفسه.
قال الأُستاذ: حاصله: لزوم الاتيان بالطهارات بقصد القربة باقتضاء نفس الأمر المتوجّه إلى الصّلاة، لكنّ هذا الوجه لم يوضّح كيفيّة تأثير الأمر المتعلّق بالصّلاة في مقدّمات الصّلاة وهي الطهارات الثلاث.
وذكر المحقّق الخراساني وجهاً آخر وحاصله: أنّه كما تمّت العباديّة للصّلاة بمجموع أمرين، تعلّق الأوّل بالأقوال والأفعال والثاني بوجوب الإتيان بها بقصد القربة، كذلك تتمّ العبادية للطّهارات بأمرين، أفاد أحدهما وجوب الإتيان بالغسلات والمسحات ـ في الوضوء مثلاً ـ والثاني وجوب الإتيان بها بقصد القربة وداعي الأمر الشرعي… فلا تكون عباديّتها بالأمر الغيري.

قال الأُستاذ:
وفيه: الفرق الواضح بين الصّلاة والطهارات، لأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأجزاء الصّلاة كان أمراً نفسيّاً، وهو مقرّب، والامتثال له موجب للثواب، بخلاف الأمر في الطهارات، فإنّ الأمر الأوّل فيها غيري، فلو جاء أمر آخر يقول بلزوم الإتيان بها بداعي الأمر، فأيّ أمر هو المقصود ؟ إن كان الأمر الأوّل فهو غيري، والأمر الغيري لا يستتبع ثواباً وعقاباً، وإنْ كان غيره فما هو ؟
وتلخص:
إن مشكلة عدم استتباع الأمر الغيري للثواب والعقاب باقية على المبنى، وأنّه كيف يكون ممتثلاً من أتى بالطهارة مع الغفلة عن الاستحباب النفسي لها ؟
وذكر المحقّق الايرواني: أنّ الاشكال المهم في المقام هو: عدم إمكان عباديّة المقدّمة التي تعلّق بها الأمر الغيري، لأنّها إنّما جعلت مقدّمة من أجل التوصّل بها إلى ذيها، فبنفس الغسلات والمسحات يتحقّق المقدّمة ولا يعتبر فيه قصد القربة.
فأجاب: بأنّ توقّف الصّلاة على الطهارة ليس من قبيل توقّف الكون على السطح على نصب السلّم، إذ الأمر بذلك غير مقيّد بنصبه، بخلاف بنصبه، لكنّ الأمر بالصّلاة فإنه مقيَّد بالطهارة، فيكون تقيّدها بها داخلاً في المأمور به، فكانت الصّلاة مركّبةً من الأجزاء الواقعيّة كالتكبير والركوع والسجود… ومن جزء عقلي هو تقيّدها بالطّهارة… ولمّا كانت الصّلاة عبادة مقيّدةً بهذه القيود، فإنّ مقتضى عباديّتها أن يؤتى بجميع القيود على الوجه القربي ومنها التقيد المذكور، لكن الإتيان بـ« التقيّد » على الوجه المذكور لا يتحقّق إلاّ بالإتيان بـ« القيد » وهو « الوضوء » مثلاً على ذلك الوجه… فتحقّق العباديّة للطهارات الثلاث ولزوم الإتيان بها على الوجه القربي.
إشكال الأُستاذ
وأورد عليه الأُستاذ بوجهين: أحدهما في قوله في طرح الاشكال بعدم امكان كون الأمر الغيري عباديّاً، وأنّه غير معقول. فإنّ فيه: أنّ المقدّمة هي ما يتوقّف عليه الشيء، وهو قد يكون عبادةً تتقوّم بالقصد، وقد لا يكون كذلك.
والثاني في قوله في تقيّد الصّلاة بالطهارة بأنّه عبادي. ففيه: أن كونه عبادة يحتاج إلى دليل، فإنْ كان الدليل عليه هو نفس الدليل على وجوب الإتيان بالصّلاة بقصد القربة، بتقريب أنّ الصّلاة في هذه الحال مركّبة من التقيّد ومن الأجزاء، فإن هذا يتوقّف على دخول التقيّد المذكور في ماهيّة الصّلاة بحيث لا يصدق عنوان الصّلاة إنْ جرّدت عنه، والحال أنه ليس كذلك، بل يصدق عنوان الصّلاة على الفاقدة للتقيّد.
وعلى فرض دخول التقيّد في الصّلاة كذلك، فما الدليل على ضرورة كون القيد ـ كالوضوء مثلاً ـ عملاً عباديّاً حتى يتحقّق التقيّد ؟ بل إنّ الصّلاة مقيّدة بعدم الخبث في لباس المصلّي، فكان التقيّد داخلاً، مع أنّ غسل الثوب المحصّل له ليس بعمل عبادي.
وذكر بعضهم: إنّ منشأ العباديّة للطهارات هو قابليّتها للتقرّب إلى المولى، وهذا كاف لترتّب الآثار كالثواب… ويشهد بكفاية القابليّة ارتكاز المتشرعة، فإنّهم لا يأتون بالوضوء ـ مثلاً ـ بداعي استحبابه النفسي، بل يأتون به بعنوان أنه بنفسه قابل للتقرّب به إلى المولى.
اشكال الأُستاذ
فأورد عليه الأُستاذ: بأنْ الأُمور ثلاثة، فمنها: ما لا يصلح للمقربيّة لأنّه لا يقبل الإضافة إلى المولى أصلاً كالظلم، لقبحه الذاتي. ومنها: ما يصلح لذلك لأنّه يقبل الإضافة إليه كالعدل، لحسنه الذاتي، ومنها: ما لا يصلح لذلك إلاّ بعد الإضافة وأمّا قبلها فلا، والحاكم في صلوحه لذلك هو العقل، والعقل يرى المقربيّة في أحد أمرين إمّا أن يكون مقرّباً بالذات كالتعظيم، وإمّا أن يكون مقرّباً بالعرض… والطهارات الثلاث ليست عبادةً بالذات، وعباديتها بالعرض موقوف على إضافتها إلى المولى، بأنْ يؤتى بها بداعي الأمر أو المحبوبيّة، فلا يكفي مجرّد القابليّة فيها للعباديّة.
وقال السيد الخوئي: « والصحيح في المقام أن يقال: إنّ منشأ عباديّة الطّهارات الثلاث أحد أمرين على سبيل منع الخلو أحدهما: قصد إمتثال الأمر النفسي المتعلّق بها مع غفلة المكلّف عن كونها مقدمة لواجب أو مع بنائه على عدم الإتيان به، كاغتسال الجنب ـ مثلاً ـ مع غفلته عن إتيان الصلاة بعده أو قاصد بعدم الإتيان بها، وهذا يتوقّف على وجود الأمر النفسي، وقد عرفت أنّه موجود. وثانيهما: قصد التوصّل بها إلى الواجب، فإنّه أيضاً موجب لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعاً، لما عرفت في بحث التعبّدي والتوصّلي من أنّه يكفي في تحقّق قصد القربة إتيان الفعل. مضافاً به إلى المولى وإن لم يكن أمر في البين »(11).
إذن، ارتفع الإشكال، لأنّ عباديّة العمل أصبحت منوطةً بإضافته إلى المولى وهي متحقّقة، كما يرتفع اشكال ترتّب الثواب، لأنّه قد أتى بالعمل بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي لا بداعي الأمر الغيري.

قال الأُستاذ
إنّ هذه النظريّة متّخذة من كلام الشيخ الأعظم رحمه اللّه في باب التعبّدي والتوصّلي، ومن كلام له في باب المقدّمة.
قال الشيخ في الفرق بين التعبّدي والتوصّلي كما في ( التقريرات )(12): بأنّ الفرق بينهما ليس من ناحية الأمر، بل من ناحية الغرض والمصلحة القائمة بمتعلّق الأمر، ففي التوصّلي تتحقّق المصلحة بالإتيان بالمتعلّق، أمّا في التعبّدي فلا، بل لابدّ من الإتيان بقصد الامتثال، فيكون في التوصّلي أمر واحد، وفي التعبدي أمران، يتعلّق الأول منهما بالعمل كقوله صلّ، والثاني يقول: أقم الصلاة بقصد الامتثال وداعي الإطاعة، وهذا ما أخذه الميرزا واصطلح عليه بـ« متمم الجعل ».
وقال الشيخ في باب المقدّمة(13): بأنّ التوصّل إلى ذي المقدمة تارةً: يكون بصرف وجود الأمر الغيري بلا دخل لأمر آخر، وأُخرى: لا يتحقّق التوصّل إلى ذي المقدّمة إلاّ بالإتيان بالمقدّمة بداعي التوصّل إلى ذيها، إذن، لابدّ من أمر آخر لإفادة هذا المعنى وتحقيق الغرض من الأمر، كما هو الحال في التعبّدي والتوصّلي، مع فرق بينهما هو أنّ الأمرين هناك كلاهما نفسي، بخلاف المقام فإنّ الأمرين كليهما غيريّان، لتعلّق الأول بالوضوء وهو مقدمة للصّلاة فهو غيري، وكذلك الثاني الذي أفاد الإتيان بالوضوء بداعي التوصّل إلى الصّلاة كما لا يخفى.

(1) مطارح الانظار: 71.
(2) كتاب الطهارة 2 / 54 الطبعة المحققة، التنبيه الأول من تنبيهات نيّة الوضوء.
(3) أجود التقريرات 1 / 257.
(4) منتقى الأُصول 2 / 260.
(5) وسائل الشيعة 1 / 378 الباب 8 من أبواب الوضوء.
(6) وسائل الشيعة 1 / 378 الباب 9 من أبواب الوضوء.
(7) وسائل الشيعة 3 / 386 الباب 23 من أبواب التيمّم.
(8) نهاية الدراية 2 / 119.
(9) كفاية الأُصول: 111.
(10) مطارح الانظار: 71.
(11) محاضرات في أُصول الفقه 2 / 229.
(12) مطارح الانظار: 58.
(13) المصدر: 78.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *