تتمّة: في أنّ الأوامر و النواهي الصّادرة عن المعصومين عليهم السلام مولويّة و ليست بإرشاديّة خلافاً لبعض الأعلام

تتمّةٌ، في النظر في كلام للسيد البروجردي في هذا المقام:
وملخّص ما ذكره رحمه الله كما جاء في تقرير بحثه تحت عنوان:
ههنا نكتة لطيفة يعجبنا ذكرها:
إنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن النبي والأئمة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ على قسمين، فمنها: ما صدر عنهم بعنوان إظهار السلطنة والحاكميّة وإعمال المولويّة، نظير الأوامر الصادرة عن الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم، كما في الأوامر والنواهي الواردة عنهم في الجهاد وميادين القتال. ومنها: ما صدر عنهم لبيان الأحكام الإلهيّة، نظير إفتاء المفتي الفقيه.
فأمّا القسم الأوّل، فيجب إطاعته ويحرم مخالفته، وأمّا القسم الثاني فلا تكون مخالفته حراماً موجباً للفسق بما هي مخالفة تلك الأوامر والنواهي، بل بما هي مخالفة أحكام الله تعالى، لكون هذا القسم من أوامرهم ونواهيهم ارشاديّاً لا مولويّاً….
ثم قال: والأوامر والنواهي المنقولة عن أئمّتنا بل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله جلّها ارشادية بالمعنى المذكور، وليست بمولويّة(1).
أقول(2)
لكنَّ مقتضى الأدلّة هو: إنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن المعصومين كلّها مولوية، وهذا هو الأصل فيها إلاّ ما قام الدليل على إرشاديّته، بل إنّ مفاد الأدلّة أنّ كلّ ما يصدر عنهم تجب إطاعتهم فيه، لأنّ الأحكام مفوّضة إليهم، ولهم الولاية المطلقة، فلا فرق بين قول الله عزوجل في القرآن الكريم وقولهم الثابت عنهم، في أن كليهما حكم إلهي يجب امتثاله.
أمّا بالنسبة إلى أوامر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما ذكرناه موضع وفاق بين الخاصّة والعامّة، ويدل على ذلك قوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )(3) ففي الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام: «إنّ الله أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم )ثم فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده فقال عزّوجلّ ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ). وإنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لا يزلُّ ولا يخطئ في شيء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب الله. ثم إنّ الله عزوجل فرض الصلاة… فأضاف رسول الله… فأجاز الله عزوجل له ذلك…».
ومثله غيره في «باب التفويض إلى رسول الله وإلى الأئمة في أمر الدين» من كتاب الكافي(4) وغيره، ممّا جاء التصريح فيه بثبوت هذه المنزلة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واشتمل على موارد من الأحكام التي وضعها في الأبواب المختلفة… وكذلك كلمات المفسرين من الفريقين بذيل الآية المباركة، فإنّهم قالوا بأنها تدل على أنّ كلّ ما أمر به النبي فهو أمرٌ من الله، وكلّ ما نهى عنه فهو نهي منه(5).
وأمّا بالنسبة إلى الأئمة ـ عليهم السلام ـ فيدلُّ عليه النصوص العامّة في أنّهم بمنزلة النبي صلّى الله عليه وآله(6)وأنهم الورثة له(7) وأن طاعتهم مفروضة كطاعته(8)، والنصوص الخاصّة الكثيرة كما قال غير واحد من الأكابر، أو المستفيضة كما قال الشيخ المجلسي كما سيأتي، كالصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام: «إنّ الله عزوجلّ أدّب نبيّه على محبّته فقال: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) ثم فوّض إليه فقال عزّوجل: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) وقال عزوجل: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ). وإنّ نبي الله فوّض إلى علي وائتمنه، فسلّم وجحد الناس»(9).
وبثبوت هذه المنزلة لهم صرّح جماعة من الأساطين من الفقهاء والمحدّثين:
قال الوحيد البهبهاني ـ في معاني التفويض الذي رمي به بعض الرواة: «الرابع: تفويض الأحكام والأفعال، بأنْ يثبت ما رآه حسناً ويردّ ما رآه قبيحاً، فيجيز الله إثباته وردّه، مثل: إطعام الجدّ السّدس، وإضافة الركعتين في الرّباعيّات، والواحدة في المغرب، والنوافل أربعاً وثلاثين، وتحريم كلّ مسكر…» ثم نصّ على كثرة الأخبار الواردة في هذا المعنى(10).
وقال أيضاً: «وقد حقّقنا في تعليقتنا على رجال الميرزا، ضعف تضعيفات القميين، فإنهم كانوا يعتقدون بسبب اجتهادهم اعتقادات من تعدّى عنها نسبوه إلى الغلو، مثل نفي السّهو عن النبي، أو إلى التفويض مثل تفويض بعض الأحكام إليه صلّى الله عليه وآله»(11).
وقال صاحب ( الحدائق ) في بحثه عن اختلاف الأخبار في منزوحات البئر: «واحتمل بعض محققي المحدّثين من المتأخّرين كون هذا الاختلاف من باب تفويض الخصوصيّات لهم عليهم السلام، لتضمّن كثير من الأخبار أنّ خصوصيّات كثير من الأحكام مفوّضة إليهم، كما كانت مفوّضةً إليه صلى الله عليه وآله»(12).
وقال السيد عبد الله شبّر: «والأخبار بهذا المضمون كثيرة، رواها المحدّثون في كتبهم، كالكليني في الكافي والصفّار في البصائر وغيرهما، وحاصلها: إنّ الله سبحانه فوّض أحكام الشريعة إلى نبيّه بعد أنْ أيّده واجتباه وسدّده وأكمل له محامده وأبلغه إلى غاية الكمال. والتفويض بهذا المعنى غير التفويض الذي أجمعت الفرقة المحقّة على بطلانه»(13).
وقال صاحب ( الجواهر ): «قال في المسالك: روى العامّة والخاصّة إنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان يضرب الشارب بالأيدي والنعال، ولم يقدّره بعدد، فلمّا كان في زمن عمر، استشار أمير المؤمنين عليه السلام في حدّه، فأشار عليه بأنْ يضرب ثمانين جلدة، معلّلاً بأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى.
وكان التقدير المزبور عن أمير المؤمنين من التفويض الجائز لهم»(14).
وقال الشيخ التقي المجلسي: «… كما يظهر من الأخبار الكثيرة الواردة في التفويض إلى النبي والأئمة صلوات الله عليهم»(15).
وقال الشيخ المجلسي: «وألزم على جميع الأشياء طاعتهم حتى الجمادات، من السماويات والأرضيّات، كشقّ القمر… وفوّض أمورها إليهم من التحليل والتحريم والعطاء والمنع، وإنْ كان ظاهرها تفويض تدبيرها إليهم، « فهم يحلّلون ما يشاؤون » ظاهره تفويض الأحكام، كما سيأتي تحقيقه»(16).

(1) نهاية الاصول: 97، الحجة في الفقه: 116 ـ 117.
(2) هذا المطلب ملخّص من الباب الأوّل من كتابنا (عموم ولاية المعصوم).
(3) سورة الحشر: 7.
(4) الكافي 1/265.
(5) انظر: منهج الصادقين 9/226، مجمع البيان، الصافي 5/156، الميزان 19/204، الكشاف 4/503، القرطبي 18/17، الرازي 29/286، النيسابوري ـ هامش الطبري ـ 28/39.
(6) من ذلك : حديث المنزلة المتواتر بين المسلمين .
(7) انظر: بصائر الدرجات ج3 باب 3.
(8) انظر: بصائر الدرجات ج3 باب 5.
(9) الكافي 1/265.
(10) الفوائد الرجالية: 39.
(11) الحاشية على مجمع الفائدة: 700.
(12) الحدائق الناضرة 1/365.
(13) مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار 1/369.
(14) جواهر الكلام 41/457.
(15) روضة المتقين 5/480.
(16) بحار الأنوار 25/342.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *