الجواب عمّا ذكره المحقق العراقي

الجواب عمّا ذكره المحقق العراقي:
قال شيخنا دام بقاه في الدورتين جواباً عن هذا الوجه: بأنّ الحقيقة التشكيكية كالحقيقة المتواطية في عدم كفايتها لإفادة الحقيقة، فكما أنَّ لفظ «الأسد» ـ مثلا ـ الموضوع للحيوان المفترس، لا يمكن أنْ يدل على إرادة فرد بخصوصه، بل يحتاج إلى بيان زائد، كذلك لفظ «النور» ـ مثلا ـ بالنسبة إلى مرتبة من المراتب، سواء كانت الشديدة أو الضعيفة، لأن اللّفظ الموضوع لمرتبتين من الحقيقة، لا يكفي مجرّد استعماله للدلالة على إحداهما وإنْ كانت القويّة والشديدة، وما ذكره من أنّ المرتبة التامّة غير محتاجة إلى مؤنة زائدة، ممنوع.
وعلى الجملة، فإنّ لفظ «الأمر» موضوع للطلب الذي هو حقيقة تشكيكيّة مثل النور، وهو موجود في الطلب الشديد والطلب الضعيف على السواء، وكما لا يمكنه إفادة الشديد بلا مؤنة بيان، كذلك إفادة الضّعيف، وإنما يفيد أصل الطلب فقط… هذا كلّه أوّلا.
وثانياً: ـ وقد أفاده في الدورة اللاّحقة ـ إنّ الخطابات الشرعيّة كلّها ملقاة إلى العرف العام، ومنها ما يشتمل على الأمر ـ مادةً أو صيغةً ـ فلابدّ وأنْ يكون الإطلاق والتقييد فيه بضابطة يدركها العرف العام، ليتمكّنوا من التفهيم والتفهّم على أساسها، وما ذكره المحقق العراقي قدّس سرّه من الضابط ـ وهو كون المرتبة العليا الشديدة غير محتاجة إلى البيان الزائد، وأنّ المرتبة الدانية والضعيفة هي المحتاجة إليه، فمتى لم يكن بيانٌ حمل على العليا ـ أمر لا يدركه العرف العام ولا يفهمه، ولذا لايمكن للشارع أنْ يحتجّ على المكلَّفين على أساسها في أوامره في الكتاب والسنّة…
وثانيهما: للسيد البروجردي قدّس سرّه فقال(1): إن مدلول مادّة الأمر ـ وكذا صيغته ـ والمعنى المستعمل فيه، إنشائي وليس بإخباري، فلمّا يقول: أمرتك بكذا، أو يقول: صلّ، فهو ينشئ ويُوجد الطلب بذلك في عالم الإعتبار.
وهذا الطلب الإنشائي غير قابل للتشكيك، لكونه اعتباريّاً، والامور الإعتبارية بسيطة لا حركة فيها، إذ التشكيك إنما يكون في الامور التي فيها الشدّة والضعف وتجري فيها الحركة، إلاّ أن الطلب الإنشائي يقع فيه التشكيك بالعرض ـ أي من خارج ذاته ـ، لأن الطلب كذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام، فهو طلب إنشائي مع مقارنات شديدة، وطلب إنشائي مع مقارنات ضعيفة، وطلب إنشائي بلا مقارنات مطلقاً، فالأول: كأنْ يطلب منه المشي ويدفعه بيده، أو يطلب منه الضرب ويصيح عليه، والثاني: كأنْ يطلب منه الكتابة ويومي إليه بيده، والثالث: أن يطلب منه أحد الأفعال مجرَّد طلب… فيكون الأول كاشفاً عن شدّة الطلب وقوة الإرادة النفسانية، والثاني: كاشفاً عن الطلب النفساني الضعيف، والثالث بلا شدّة ولا ضعف… إذنْ، قد يتّصف الطلب الإنشائي بالشدّة والضعف لكن من خارج ذاته.
ومن الطلب الإنشائي غير المقارَن بشيء ينتزع الوجوب… والدليل عليه هو السيرة العقلائية، وعلى أساسه يترتّب استحقاق العقاب بين الموالي والعبيد.
هذا، ولا يخفى اختلاف كلامه رحمه الله، ففي أوّله قال بأنّ الوجوب ينتزع من الطلب الإنشائي المقترن بالمقارنات الشديدة، والندب ينتزع من المقترن بالمقارنات الضعيفة، أمّا في آخره فيذكر أن نفس الطلب منشأ لانتزاع الوجوب. بل يذهب إلى جواز أن يقال بعدم وجود انشاء طلب في موارد الندب، وأن المندوبات ليست إلاّ إرشاداً إلى الملاكات والمناطات، فينحصر الطلب بموارد الواجبات فقط.
هذا حاصل كلامه مع التوضيح.
والفرق بينه وبين تقريب المحقّق العراقي: أن العراقي يرى أن مادّة الأمر وكذا الصيغة ـ مبرزة للصّفة النفسانية، والبروجردي يرى أن الطلب الإنشائي إيجاد وليس بإبراز.

(1) نهاية الأصول: 86.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *