من الأحاديث الدالّة على أنّ علياً مبلّغ علوم النبي

من الأحاديث الدالّة على أنّ علياً مبلّغ علوم النبي
ولا يخفى على ذوي النهى أنّ هذا الذي ذكره ابن تيميّة ليس إنكاراً لحديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» فقط، بل يستلزم إنكار أحاديث كثيرة رواها أعلام الحفّاظ من السّابقين واللاّحقين في حق مولانا أمير المؤمنين، لابتناء كلامه على أنّ حديث مدينة العلم يدل على أنّ علياً هو المبلّغ الوحيد عن النبي، لكن المبلّغ لا يكون واحداً وإلاّ فسد أمر الإسلام، فهذا الحديث باطل.
إلاّ أنّه لا ريب لأهل الحق والإيقان في أنّه عليه السلام هو الباب الوحيد لمدينة العلم، ولا مبلّغ عن النبي سواه، وقد دلّت على ذلك الأحاديث الأخرى بالإضافة إلى حديث مدينة العلم، مثل:
قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «علي باب علمي، ومبيّن لامّتي ما أرسلت به من بعدى…». وقوله في حديث طويل: «… وأنت باب علمي…». وقوله في حديث في حق علي: «عيبة علمي، وبابي الذي أوتى منه.» وقوله: «علي باب حطّة، من دخل منه كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافرا». وقوله: «علي بن أبي طالب باب الدّين، من دخل فيه كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافرا». وقوله عليه وآله الصلاة والسلام: «يا علي! أنت حجة الله، وأنت باب الله». وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلاّ أنا أو علي».

8. انتشار العلم عن علي
ثم قال ابن تيميّة: «ثم إنّ هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإنّ جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غيرعلي». وهذا كلام متعصّب سفيه. لأنه:
أولاً: دعوى باطلة ظاهرة الكذب.
وثانياً: دعوى تواتره كذب آخر.
وثالثاً: يخالف إفادات أكابر علماء أهل السنة، كما ستسمع، وفيها التصريح بانتشار العلوم عن أمير المؤمنين عليه السلام، في البلاد المختلفة.
ورابعاً: لو سلّمنا بلوغ العلم إلى جميع المدائن الإسلامية من غير علي، فمن أين يثبت أنّ ما بلغها كان «العلم عن الرسول»، ومن الواضح أنّ مجرّد النسبة إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يثبت كونه منه، وإلاّ لزم تصديق كلّ من يدّعي الإبلاغ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيه من الفساد ما لا يخفى، كيف؟ وقد كثرت الكذّابة عليه على عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قال: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار».
وخامساً: سلّمنا كونه علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكن هذا لا يضرّنا، بل يضر الآخذين لذلك االعالم العاملين به، لأنهم أخذوه من غير باب مدينة العلم، وكلّ ما أخذ عن غير باب مدينة العلم فلا يجوز العمل به، بل إنّه من قبيل السرقة ويستتبع الحدّ الشرعي على ارتكابه، ومن هنا قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً».
أقول: وهذا القدر كاف في ردّ ما ادّعاه ابن تيميّة، وجميع ما بناه على هذا الكلام، ولكن لمّا كانت عبارته مشتملة على أكاذيب أخرى، فنحن مضطرّون إلى التنبيه على مواضع كذبه بالتفصيل.
قال ابن تيميّة: «أما أهل المدينة ومكة، فالأمر فيهما ]فيهم[ ظاهر. وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلاّ شيئاً قليلا».
قلت: هذه دعوى بلا دليل، على أنه من الممكن بلوغ علم الرسول إليهم عن علي عليه السلام ولكنّهم لم يرووه عنه لعداوتهم له، أو رووا ولكن سلاطين الجور وأمراء الفسق ـ الذين كانوا يمنعون من ذكر مجرّد اسمه ـ حالوا دون انتشار تلك الروايات، على أنّ قلة الرواية ـ لو سلّمنا كونها كاشفة عن قلّة الأخذ ـ لا تنافي كون الامام عليه السلام باب مدينة العلم، وإنّما تكشف عن إعراض هؤلاء عن باب مدينة العلم. وذلك عليك وعليهم، لو كنت تعقل ويعقلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

المدينة المنوّرة
ثم نقول: أما المدينة المنوّرة، فقد قضى عليه الصّلاة والسلام فيها الشطر الأعظم من حياته المباركة، وكان الرجوع إليه فيها في جميع المشكلات، لمن تصدّى أمر الخلافة وغيرهم من الأصحاب، وهذا مما لا ريب فيه لأحد ولا نزاع، بل اعترف وأقرّ به جمع من العلماء الأعيان:
قال النووي: «وسؤال كبار الصحابة له، ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات، مشهور».(1)
وقال ابن روزبهان: «رجوع الصّحابة إليه في الفتوى غير بعيد، لأنه كان من مفتي الصحابة، والرجوع إلى المفتي من شأن المستفتين، وإن رجوع عمر إليه كرجوع الأئمة وولاة العدل إلى علماء الأمة».(2)

مكّة المكرّمة
وأمّا مكّة المكرّمة، فقد عاش فيها عليه الصلاة والسلام منذ الولادة حتى الهجرة، وقد أتاها بعد الاستيطان في المدينة المنوّرة مرّات عديدة، فكيف يقال بعدم بلوغ العلم عنه إلى أهل مكة؟
على أنّ تلميذه الخاص به «عبد الله بن عباس» أقام في مكة زمناً طويلاً يعلّمهم القرآن وينشر العلم، قال الذهبي بترجمة ابن عباس: «الأعمش، عن أبي وائل قال: استعمل علي ابن عباس على الحج، فخطب يومئذ خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا. ثم قرأ عليهم سورة النّور، فجعل يفسّرها».(3)
وقال ابن سعد: «أخبرنا محمد بن عمر حدّثني واقد بن أبي ياسر عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة: إنها نظرت إلى ابن عباس ـ ومعه الخلق ليالي الحج، وهو يسئل عن المناسك ـ فقالت: هو أعلم من بقي بالمناسك».(4)

الشام
وأما أهل الشام، فأعلمهم وأفقههم أبو الدرداء، وهو أخذ من عبد الله بن مسعود، وابن مسعود من تلامذة أمير المؤمنين عليه السلام، قال الذهبي بترجمة أبي الدرداء: «وكان عالم أهل الشام، ومقرئ أهل دمشق، وفقيههم وقاضيهم».(5)
وقال الموفّق بن أحمد المكي: «عن أبي الدرداء رضي الله عنه: العلماء ثلاثة، رجل بالشام ـ يعني نفسه ـ ، ورجل بالكوفة ـ يعني عبد الله ابن مسعود ـ ، ورجل بالمدينة ـ يعني علياً. فالذي بالشام يسأل الذي بالكوفة، والذي بالكوفة يسأل الذين بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسأل أحداً».(6)
الكوفة
وأمّا قول ابن تيميّة: «وإنّما كان غالب علمه بالكوفة» فيردّه: أنّ علم الامام عليه السلام ـ وهو بعينه علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان في الكثرة والغزارة بحيث لو أخذ منه أهل العالم كلّهم أجمعون لوسعهم من غير أن تنفد علومه.
وإن أراد ابن تيميّة أنّ غالب ما ظهر من علومه كان بالكوفة، فيردّه: إن غالب علمه كان بالمدينة لا بالكوفة، فإن رجوع الشيوخ الثّلاثة وغيرهم من الأصحاب إليه في المعضلات والمشكلات كان بالمدينة، وأمّا في الكوفة فلم يتفرّغ للتعليم والإرشاد، لاشتغاله عليه السلام فيها غالباً بما يتعلّق بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

اليمن
وأمّا قوله: «وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي». فيشتمل على دعاوى عديدة باطلة:
1. تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن.
2. مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن.
3. إن تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن أكثر من تعليم علي عليه السلام.
4. إن مقام معاذ فيهم أكثر من مقام علي عليه السلام.
5. رواية أهل اليمن عن معاذ.
6. إنّ ما رووه عن معاذ أكثر ممّا رووا عن علي عليه السلام.
وليس لابن تيميّة أيّ دليل أو شاهد لشيء من هذه الدعاوى، فذكر هذه الأمور في مقابلة الامامية ليس إلاّ سفاهة ورقاعة، بل إنّ كثيراً منها لا يقبل الإثبات على ضوء كلمات أهل السنة ورواياتهم أيضاً، وتفصيل ذلك هو:
أنّ الأصل في هذا المطلب بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمير المؤمنين عليه السلام ومعاذ بن جبل إلى اليمن، لكن بعث الامام متّفق عليه بين الفريقين. أمّا بعث معاذ فممّا رواه أهل السّنة خاصة، ولا يجوز لهم إلزام الشيعة به، ولو سلّمنا ذلك لم يكن فيه نفع لابن تيميّة، لعدم الريب في أنّ بعث الامام عليه السلام كان للتعليم والإرشاد، وأنّ بعث معاذ بن جبل كان لأجل جبر حالته الدنيويّة كما دريت ممّا ذكرناه سابقاً في جواب كلام العاصمي. وأما ما ذكره بعض أهل السنّة من أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث معاذاً إلى اليمن للقضاء فباطل محض، وافتعال صرف، لم يرد به حديث صحيح، بل الأصل في ذلك الحديث الذي رواه الترمذي، وقدح فيه هو وغيره من أكابر علمائهم.
وإذا كان بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لأمر دنيوي خاص به، لم يجز القول بأنّه راح إليها للتعليم، فضلا عن القول بأنّ تعلّم أهل اليمن منه كان أكثر من تعلّمهم من علي، ولو فرض قيام معاذ ببعض التعليم مع ذلك، فلا ريب في فساد ما ألقاه إليهم، لما تقدّم سابقاً من جهل معاذ بمسائل الحلال والحرام، وحينئذ، فلو كان معاذ قد عمّر عمر نوح وأقام في أهل اليمن كلّ تلك المدّة لما أفادهم مثل نقير، فضلاً عن أن يفوق على باب مدينة العلم في تعليمهم.
ومع تسليم أنّه بعث إلى اليمن للتعليم كما يدّعي المتخرّصون من أهل السنة، فإنّ ترجيح تعليمه على تعليم الإمام عليه السلام غير جائز، لعدم الخلاف بين المسلمين في أنّه عليه السلام أفضل من معاذ بن جبل، وعلى هذا، فلو بقي معاذ في أهل اليمن عمر نوح، ولم يلبث فيهم الامام إلاّ يسيراً لرجح تعليم الامام على تعليم معاذ وكان أفضل وأشدّ تأثيراً وأكثر فائدة، وستعلم فيما بعد أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث خالد بن الوليد إليهم أولا، ولبث فيهم خالد ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد، ثم بعث الامام عليه السلام فأسلم على يده همدان في أول يوم، وهذا أصدق شاهد على أنّ كلام الفاضل أشد تأثيراً من كلام المفضول، وإن كانت إقامته أطول ودعوته أكثر… من هنا يظهر بطلان قياس تعليم الامام عليه السلام بتعليم غيره، فضلا عن تعليم معاذ على تعليمه، ولنعم ما قال عليه السلام: «لا يقاس بآل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من هذه الامة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمته عليهم أبداً».
وأمّا ما ادّعاه ابن تيميّة في قوله: «وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقّهوا على معاذ بن جبل» فكذب شنيع، لا يمكن لأحد من أولياء ابن تيميّة تصحيحه على اصول السنّية، فضلا عن طريق الإمامية، فإنّ تعلّم شريح من معاذ لم يذكره إلاّ علي بن المديني غير جازم به، بل حكاه عن قائل مجهول، ففي (الإصابة) بترجمة شريح: «وقال ابن المديني: ولي قضاء الكوفة ثلاثاً وخمسين سنة، ونزل البصرة سبع سنين، ويقال: إنه تعلم من معاذ، إذ كان باليمن»،(7) ومن الواضح أنّ هكذا أمر لا يثبت بمجرد قول من مجهول.
بل إنّ التتبّع لكتب الرجال والتراجم يفيد بعض القرائن على النفي، منها: عدم ذكر معاذ فيمن روى عنه شريح، ولو كان متفقّهاً عليه لذكر اسمه فيمن روي عنه قبل غيره قطعاً، ولا أقل من ذكره فيما بينهم. وإليك نصّ ترجمة ابن حبان لشريح: «شريح بن الحارث القاضي الكندي حليف لهم… كنيته أبو أمية، وقد قيل: أبو عبد الرحمن، كان قائفاً، وكان شاعراً، وكان قاضياً، يروي عن عمر بن الخطاب، روى عنه الشعبي، مات سنة ثمان وسبعين أو سبع وثمانين، وهو ابن مائة وعشر سنين، وقد قيل: ابن مائة وعشرين سنة، وكان قد بقي على القضاء خمساً وسبعين سنة، ما تعطّل فيه إلاّ ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير».(8)
وقال النووي: «أدرك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يلقه، وقيل: لقيه، والمشهور الأول، قال يحيى بن معين: كان في زمن النبي ولم يسمع منه. روى عن: عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعروة البارقي رضي الله عنهم».(9)
وقال ابن حجر: «روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مرسلاً، وعن عمر وعلي وابن مسعود وعروة البارقي وعبد الرحمن بن أبي بكر».(10)
وقال الخزرجي: «كان من أجلّة العلماء وأذكى العالم، عن: علي وابن مسعود. وعنه: الشعبي وأبو وائل».(11)
وعدم ذكرهم معاذاً فيمن روى عنه شريح قرينة جليّة على عدم روايته عنه، لأنه لو روى عنه ولو قليلا لذكر، لأن ابن تيميّة يرى أنّ قلّة الرواية دليل على قلّة الأخذ، فإذ لم يذكر أصلاً فإنه لم يأخذ عنه أبداً.
هذا كلّه بالنسبة إلى دعوى تفقّه شريح على معاذ.
وأما دعوى تفقّه غيره من أكابر التابعين على معاذ بن جبل، فهي دعوى عارية عن الدليل، ولم يقل بها قائل معروف ولا مجهول.
وأمّا قوله: «ولمّا قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضياً» فكلام لانفع له فيه أبداً، فأيّ دليل على صحّة قضاءه في الكوفة قبل ورود الامام عليه السلام، وما أكثر الذين نصبوا للقضاء وهم جهال؟ سلّمنا، لكنّه ممّن روى عن أمير المؤمنين عليه السلام كما عرفت. هذا مع أنّه كان يرجع في المعضلات الواردة عليه إلى الإمام عليه السلام وعبيدة السلماني وهو من تلامذة الامام… كما ستعرف عن قريب، فلم يكن مستغنياً عن الأخذ من الامام عليه السلام، كما لم يستغن عنه الثلاثة وأكابر الصحابة.
فقوله: «وهو وعبيدة السلماني تفقّها على غيره» مردود، لأنّ تفقّه شريح على غير الإمام عليه السلام دعوى بلا دليل، أمّا تفقّهه على معاذ ابن جبل ـ كما زعم ـ فقد عرفت عدم الدليل عليه، بل الدليل على عدمها. وأمّا تفقّهه على غير معاذ فمن هو ذلك الغير؟
وأمّا دعوى تفقّه عبيدة السلماني على غير الإمام عليه السلام، فمن أعاجيب الأكاذيب، لإجماع علماء الرجال على تفقه عبيدة السلماني على الامام وعبد الله بن مسعود، قال السمعاني: «هو من أصحاب علي وابن مسعود، حديثه مخرّج في الصحيحين… وقال أحمد بن عبد الله العجلي: عبيدة السلماني كان أعور، وكان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرؤن ويفتون. وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء قال: إن هاهنا رجلاً في بني سلمة فيه خبرة، فير سلهم إلى عبيدة، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه، وكلّ شيء روى ابن سيرين عن عبيدة سوى رأيه فهو عن علي. ومات سنة اثنتين وسبعين أو ثلاث من الهجرة».(12)
وقال النووي: «هو مشهور بصحبة علي. روى عنه: الشعبي والنخعي وأبو حصين وابن سيرين وآخرون، نزل الكوفة، وورد المدينة، وحضر مع علي قتال الخوارج، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين قرؤن ويفتون، وكان شريح إذا أشكل عليه شيء أرسل إلى عبيدة…».(13)
وقال المزي: «قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، أسلم قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، ولم ير النبي، وكان من أصحاب علي وابن مسعود، وكان أعور، وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء بعث إليه، وكلّ شيء روى ابن سيرين عن عبيدة فهو عن علي سوى رأيه».(14)
وقال ابن حجر: «وكان من أصحاب علي وعبد الله»(15)
وقال أيضاً: «وعدّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود».(16)
فظهر أن ما ذكره من تفقّه عبيدة السلماني على غير الامام عليه السلام. إفك محض وبهت بحت، لأن تفقّهه ليس إلاّ عليه إمّا مباشرة وإمّا بواسطة تلميذه عبد الله بن مسعود، لكنّ التفقّه على الامام عليه السلام والأخذ عنه، لا يلازم التشيّع والمتابعة، كما ذكرنا، ومن هنا نرى أنّ هذين الرجلين لم يكونا على مذهب الإمام عليه السلام، بل كان بعض فتاويهما في الكوفة على خلاف رأيه، إلاّ أنّ الامام تركهما على ذلك خشية الفتنة والإختلاف، ففي البخاري: «حدثنا علي بن الجعد، نا شعبة بن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة عن علي قال: أقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون الناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي».(17)
وقد أوضح ذلك شرّاح البخاري، قال ابن حجر: «قوله: عن علي قال: أقضوا كما في رواية الكشميهني على ما كنتم تقضون. قيل: وفي رواية حماد بن زيد عن أيوب: أنّ ذلك بسبب قول علي في بيع أم الولد، وأنّه كان يرى هو وعمر أنهنّ لا يبعن، وأنّه رجع عن ذلك فرأى أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة، فقال علي ما قال. قلت: وقد وقفت على رواية حماد بن زيد، أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عنه، وعنده قال لي عبيدة: بعث إليّ علي وإلى شريح فقال: إني أبغض الإخلتفا، فاقضوا كما كنتم تقضون.
فذكره إلى قوله أصحابي، قال: فقتل علي قبل أن يكون جماعة.
قوله: فإني أكره الإختلاف، أي الذي يؤدّي ألى النزاع، قال ابن التين: يعني مخالفة أبي بكر وعمر. وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدّي إلى النزاع والفتنة، ويؤيّده قوله بعد ذلك: حتى يكون الناس جماعة…».(18)
فاندفع ما توخّاه ابن تيميّة بقوله: «فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة» لما عرفت من أنّ علم الإسلام انتشر في المدائن عن طريق باب مدينة العلم فقط دون غيره، وأنّه لا سبيل إلى علم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ من هذا الباب، فمن أتاه فقد امتثل أمر النبي، ومن لم يأته هلك وخسر، وكلّ ما خرج من هذا الباب فهو علم ونور وهداية، وكلّ ما كان من غيره فهو جهل وظلمة وضلالة.
ولقد دمّرنا بفضل الله على تزويقات ابن تيميّة وغيره تدميراً، وتبّرنا قاطبة تلفيقاتهم تتبيراً، ولم نترك من كلماتهم الزائغة نقيراً ولا قطميراً، ولله الحمد على ذلك حمداً كثيراً كثيراً.

(1) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 346.
(2) إبطال الباطل لابن روزبهان الشيرازي ـ مخطوط.
(3) تذكرة الحفاظ 1/24.
(4) الطبقات الكبرى 2/369.
(5) تذكرة الحفّاظ 1/24.
(6) مناقب علي: 55.
(7) الإصابة 2/144.
(8) كتاب الثقات 4/352.
(9) تهذيب الأسماء واللغات 1/243.
(10) تهذيب التهذيب 4/326.
(11) خلاصة تذهيب التهذيب: 165.
(12) الأنساب: 3/277.
(13) تهذيب الأسماء واللغات 1/317.
(14) تهذيب الكمال 19/266.
(15) تهذيب التهذيب 7/84.
(16) تهذيب التهذيب 7/85.
(17) صحيح البخاري 5/81 ـ فضائل أصحاب النبي مناقب علي.
(18) فتح الباري 7/59 ، وانظر: عمدة القاري 16/218، وإرشاد الساري 6/118.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *