استدلال العلامة الحلي

استدلال العلامة الحلي
* وقال العلاّمة الحلّي: «أجمع المفسّرون على أن (أَبْنَاءنَا) إشارة إلى الحسن والحسين، و (أَنفُسَنَا) إشارة إلى عليٍّ عليه السلام.
فجعله اللّه نفس محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والمراد المساواة، ومساوي الأكمل الأَولى بالتصرّف أكمل وأَولى بالتصرّف، وهذه الآية أدلّ دليل على علوّ رتبة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام; لأنّه تعالى حكم بالمساواة لنفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وأنّه تعالى عيّنه في استعانة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في الدعاء. وأيّ فضيلة أعظم من أن يأمر اللّه نبيّه بأن يستعين به على الدعاء إليه والتوسّل به؟! ولمن حصلت هذه المرتبة؟!»(1).
أقول:
وعلى هذا الغرار كلمات غيرهم من علمائنا الكبار في مختلف الأعصار… فإنّهم استدلّوا على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بطائفتين من الأدلّة، الأُولى هي النصوص، والثانية هي الدالّة على الأفضليّة، والأفضليّة مستلزمة للإمامة، وهو المطلوب.
وخلاصة الاستدلال بالآية هو:
1 ـ إنّ الآية المباركة نصّ في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، لأنّها تدلّ على المساواة بين النبيّ وبينه عليه السلام، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرّف، أكمل وأولى بالتصرّف.
2 ـ إن قضية المباهلة وما كان من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلم ـ قولا وفعلا ـ تدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك لوجوه منها:
أولا: إنّ هذه القضيّة تدلّ على أنّ عليّاً وفاطمة والحسنين عليهم السلام، أحبّ الناس إلى رسول اللّه، والأحبيّة تستلزم الأفضلية.
قال البيضاوي: «أي يدع كلّ منّا ومنكم نفسه وأعزّة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة…»(2).
فقال الشهاب الخفاجي في حاشيته: «ألصقهم بقلبه، أي: أحبّهم وأقربهم إليه».
وقال: «قوله: وإنّما قدّمهم…، يعني: أنّهم أعزّ من نفسه، ولذا يجعلها فداءً لهم، فلذا قدّم ذكرهم اهتماماً به. وأمّا فضل آل اللّه والرسول فالنهار لا يحتاج الى دليل»(3).
وكذا قال الخطيب الشربيني(4)، والشيخ سليمان الجمل(5)، وغيرهما.
وقال القاري: «فنزّله بمنزلة نفسه لِما بينهما من القرابة والأخوّة»(6).
وثانياً: دلالة فعل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلم، إذ باهل خصومه بعلي وفاطمة وحسن وحسين فقط، ولم يدع واحدةً من أزواجه، ولا واحداً من بني هاشم، ولا امرأةً من أقربائه… فضلا عن أصحابه وقومه… فإنّه يدلّ على عظمة الموقف، وجلالة شأن هؤلاء عند اللّه دون غيرهم، إذ لو كان لأحدهم في المسلمين مطلقاً نظير، لم يكن لتخصيصهم بذلك وجه.
وثالثاً: دلالة قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأهل البيت، لمّا أخرجهم للمباهلة: «إذا أنا دعوت فأمّنوا».
فقال أسقُفهم: «إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من جباله لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة»(7).
فإنّ ذلك يدلّ على دخل لهم في ثبوت نبوّته وصدق كلامه، وفي إذلال الخصوم وهلاكهم لو باهلوا…، فكان لهم الأثر الكبير والسهم الجزيل في نصرة الدين ورسول ربّ العالمين. ولا ريب أنّ من كان له هذا الشأن في مباهلة الأنبياء كان أفضل ممّن ليس له ذلك.
قال القاساني: «إنّ لمباهلة الأنبياء تأثيراً عظيماً سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد اللّه إيّاهم به، وهو المؤثر بإذن اللّه في العالم العنصري، فيكون انفعال العالم العنصري منه كإنفعال بدننا من روحنا في الهيئات الواردة عليه، كالغضب، والحزن، والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك من تحرّك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم، وانفعال النفوس البشريّة منه كانفعال حواسّنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا، فإذا اتّصل نَفس قُدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجّه الإتصالي تأثير ما يتّصل به، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد.
ألم تَر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف، وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية؟»(8).
أقول: فكان أهل البيت عليهم السلام شركاء مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم في هذا التأثير العظيم، وهذه مرتبة لم يبلغ عشر معشارها غيرهم من الأقرباء والأصحاب.
وعلى الجملة، فإنّ المباهلة تدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والأفضل هو المتعيّن للإمامة بالإتّفاق من المسلمين، كما اعترف به حتى مثل ابن تيميّة(9).
ونتيجة الإستدلال بالآية المباركة وما فعله النبي وقاله، هو أنّ اللّه عزّوجلّ أمر رسوله بأن يسمّي عليّاً نفسه كي يبيّن للناس أنّ عليّاً هو الذي يتلوه ويقوم مقامه في الإمامة الكبرى والولاية العامّة; لأن غير الواجد لهذه المناصب لا يأمر اللّه رسوله بأن يسمّيه نفسه.
هذا، وفي الآية دلالة على أنّ «الحسنين» ابنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهذا ما نصّ عليه غير واحد من أكابر القوم.
وقد جاء في الكتب أنّ عليّاً عليه السلام كان الكاتب لكتاب الصلح(10) وأنّه توجّه بعد ذلك إلى نجران بأمر النبي لجمع الصّدقات ممن أسلم منهم وأخذ الجزية ممّن بقي منهم على دينه(11).
ثمّ إنّ أصحابنا يعضّدون دلالة الآية الكريمة على المساواة بعدّة من الروايات:
كقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لبريدة بن الحصيب عندما شكا عليّاً عليه السلام: «يا بريدة! لا تبغض عليّاً فإنّه منّي وأنا منه» ولعموم المسلمين في تلك القصّة: «عليّ منّي وأنا من عليّ، وهو وليّكم من بعدي»(12).
وقوله، وقد سئل عن بعض أصحابه، فقيل: فعليّ؟! قال: «إنّما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي»(13).
وقوله: «خُلِقت أنا وعليّ من نور واحد».
وقوله: «خُلِقت أنا وعليُّ من شجرة واحدة»(14).
وقوله ـ في جواب قول جبرئيل في أحد: يا محمّد! إنّ هذه لهي المواساة ـ : «يا جبرئيل، إنّه منّى وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما»(15).
أقول: وستأتي أحاديث أُخر فيما بعد، إن شاء اللّه.
وممّا يُستَدل به أيضاً: قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «فاطمة بضعة منّي…» حيث استدلَّ به غير واحد من أئمّة القوم بأفضليّة فاطمة على أبي بكر وعمر، لكونها بضعةً من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهو أفضل منهما بالإجماع(16)، فإنّ عليّاً عليه السلام أفضل منها بالإجماع كذلك.
ثم إنّ غير واحد من أعلام أهل السُنّة اعترف بدلالة القصّة على فضيلة فائقة لأهل البيت عليهم السلام:
قال الزمخشري: «وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام»(17).
وقال ابن روزبهان: «لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام في هذه الآية فضيلة عظيمة وهي مسلَّمة، ولكن لا تصير دالةً على النصّ بإمامته»(18).
أقول: فلا أقلّ من الدلالة على الأفضليّة; لأنّ هذه الفضيلة غير حاصلة لغيره، فهو أفضل الصحابة، والأفضليّة تستلزم الإمامة.
ومن هنا نرى الفخر الرازي لا يقدح في دلالة الآية على أفضليّة عليٍّ على سائر الصحابة، وإنّما يناقش الشيخ الحمصي في استدلاله بها على أفضليته على سائر الأنبياء، وسيأتي كلامه.
وتبعه النيسابوري وهذه عبارته: «أي: يَدعُ كلّ منّا ومنكم أبناءه ونساءه ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة، وإنّما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعزّ من النفس، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ): ثمّ نتباهل… .
وفي الآية دلالة على أنّ الحسن والحسين ـ وهما ابنا البنت ـ يصحّ أن يقال: إنّهما ابنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، لأنّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وعد أن يدعو أبناءه ثمّ جاء بهما.
وقد تمسّك الشيعة قديماً وحديثاً بها في أنّ عليّاً أفضل من سائر الصحابة; لأنّها دلّت على أنّ نفس عليّ مثل نفس محمّد إلاّ في ما خصّه الدليل.
وكان في الريّ رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ـ وكان متكلّم الاثني عشرية ـ يزعم أنّ عليّاً أفضل من سائر الأنبياء سوى محمّد. قال: وذلك أنّه ليس المراد بقوله: (أَنفُسَنَا) نفس محمّد، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، فالمراد غيره، وأجمعوا على أنّ الغير كان عليّ ابن أبي طالب… .
وأُجيب: بأنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبي، وأجمعوا على أنّ عليّاً عليه السلام ما كان نبيّاً… .
وأمّا فضل أصحاب الكساء، فلا شكّ في دلالة الآية على ذلك، ولهذا ضمّهم إلى نفسه، بل قدّمهم في الذكر…»(19).

(1) نهج الحقّ وكشف الصدق: 177.
(2) تفسير البيضاوي بحاشية الشهاب 3 / 32.
(3) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي 3 / 32.
(4) السراج المنير في تفسير القرآن 1 / 222.
(5) الجمل على الجلالين 1 / 282.
(6) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 589.
(7) الكشّاف 1 / 369، تفسير الخازن 1 / 242، السراج المنير في تفسير القرآن 1 / 222، المراغي 3 / 175، وغيرهم ممّن تقدّم أو تأخّر.
(8) تفسير القاسمي 2 / 857.
(9) نصّ عليه في مواضع من منهاجه، انظر مثلا: 6 / 475 و 8 / 228.
(10) سنن البيهقي 10 / 120، وغيره.
(11) شرح المواهب اللدنّية 4 / 43.
(12) هذا حديث الولاية، وقد بحثنا عنه بالتفصيل سنداً ودلالةً في الجزء الخامس عشر من كتابنا الكبير «نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار».
(13) كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 155.
(14) حديث النور، وحديث الشجرة، بحثنا عنهما بالتفصيل سنداً ودلالةً في الجزء الخامس من كتابنا الكبير «نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار».
(15) مسند أحمد 4 / 437، المستدرك على الصحيحين 3 / 11، تاريخ الطبري 3 / 17، الكامل في التاريخ 2 / 63 ومصادر أُخرى في التاريخ والحديث.
(16) فتح الباري 7 / 132، فيض القدير 4 / 421، المرقاة في شرح المشكاة 5 / 348.
(17) الكشّاف 1 / 370.
(18) إبطال الباطل ـ مع إحقاق الحق ـ 3 / 63.
(19) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري 3 / 214 ـ 215.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *